كلية الشهيد فيصل الثاني:عندما تكون الجندية أمّاً .. د.بسام البطوش
mohammad
08-11-2009 12:19 PM
قبل ثلاثين حولاً أتيح لي الالتحاق بكلية الشهيد فيصل الثاني في إحدى شعبتي الصف الأول الثانوي،لأمضي فيها المرحلة الثانوية؛فكانت هذه الفرصة بمثابة الالتحاق بركب الحياة والأمل والمستقبل،كما هو الحال بالنسبة للغالبية العظمى من زملائي،فقد جئناها من قرانا تلك القصية نحمل معاناتنا وقصصنا وحكاياتنا وآمالنا وأشواقنا للمستقبل.
وحكاياتنا نحن أبناء القرى والبوادي تدور دائما حول البحث عن الأمل والرجاء،وعن الجندية والصبر،وتروي فصول المعاناة في قرانا وبوادينا التي غادرناها وطوينا دروبها نحو عمان،حكاياتنا تتعلق بمدارس غير مكتملة،أوبعيدة،أوتتصل بظروف اليتم أو الفقر.. تمضي الأيام والليالي في روايتها بين يدي أمنا (الكلية)بقلبها الكبير،فقد أدمنّا بثها همومنا ومتاعبنا وبعضاً من لواعج الأسى السرمدي الذي يلف ليالي المتعبين في الأرض.هنيئا.. لقد فتحت أمنا الرؤوم ذراعيها للفتية القادمين من أقاصي الوطن ينشدون التغيير،يحملون بين ثنايا دفاترهم وأقلامهم آية الكرسي وأناشيد الوطن والأمةوقصائد الحب والحرب،وهاهي تصغي لهم يبثونها أشواقهم وآمالهم وتطلعاتهم لغد يحملهم ذات صباح إلى الجامعات والمعاهد المدنية والعسكرية داخل الوطن وخارجه .
بدت لنا الكلية في تلك اللحظة مركز الدنيا ومحور العالم،بموقعها الحيوي في قلب عمان وعلى بعد خطوات من الجبل الحالم (اللويبده) جبل الارستقراطية العمانية السالفة،لا نلام إذا ما دهشنا أو شدهنا..إنها في العبدلي وتحديداً في الشارع الأكثر حيوية في الأردن آنذاك الذي يضم القيادة العامة للقوات المسلحة،ومديرية الأمن العام،ومديرية المخابرات العامة،ومديرية الدفاع المدني،ومجلس الأمة،وكلية الشرطة،والمطابع العسكرية،وبنك الاسكان..ولك أن تتخيل النقلة النوعية التي يحدثها الانتقال لمثل هذا المكان من أقاصي القرى والبوادي،بما يرافقه من شعور طبيعي بالغصة وبالمتعة الممتزجة بروح الأمل والإصرار على التفوق والنجاح.
كان(القسم الداخلي) يضم بحنو وحزم أولئك القادمين من أرياف الوطن وبواديه من عقربا إلى المدوره.. ويوفر لهم المأوى والرعاية .وتعمد (الكلية الأم)إلى دمج أبناءها من القسمين الداخلي والخارجي في الصفوف الدراسية،وفي الأنشطة الداخلية والخارجية،وفي حياة يومية تصوغ الهوية الوطنية الجامعة،وينصهر في بوتقتها أبناء القرى والبوادي والمدن والمخيمات،وأبناء الشهداء،والأيتام،والمعدمين ، وأبناء كبارالضباط،والمسؤولين العسكريين والمدنيين،عبر برامج تربوية هادفة ومتنوعة،ومن خلال (الفوتيك) الزي الموحد،الذي كان يوحدنا جميعا،لينشأ عن هذا التمازج الرائع ثقافة جديدة تساهم في إعادة تشكيل النظرة للحياة وقيمها وحقائقها،ولتقوم بين هؤلاء علاقات حميمة وصداقات تمتد على مدى العمر كله.
أنجبت أمنا الكلية أجيالاً قبلنا،وولدت من بعدنا أجيالاً عدة.. وكانت على المدى تحتضن آمال القادمين إليها من أبناء الريف والبادية ببراءتهم وطيبتهم وجلدهم وخشونتهم؛فتصقل شخصياتهم،وتتعهدهم بالرعاية،وتصوغ وجدانهم،وتمنحهم الفرصة للتفاعل مع دنيا الوطن على اتساعها؛ليتشكل في طابورها الصباحي،وعلى مقاعدها،وفي مكتبتها،وميادينها،وأنشطتها وعيهم على خريطة الوطن والأمة،وتتفتح عيونهم على وطن ينهض ويتقدم ويحارب.
وتبقى لحكاية الكلية فصول تخص كل واحد من تلامذتها،ولدى كل منهم روايته الذاتية،وما أجمل أن يضمها كتاب واحد بين جنباته! لكنها تبقى في مجموعها تشكل جانباً من نهضة الأردن التعليمية الذي حمل الجيش العربي نصيباً من مسؤوليتها،وكانت بدايات(الثقافة العسكرية ) هناك مع قوة البادية وحرس الحدود في قلب البادية وفي مضارب العشائر الممتدة من الأزرق والموقر وباير إلى المدورة والجفر.حيث كانت المدارس السيارة أو المتنقلة ترافق العشائر في حلها وترحالها.
الخطوة الأهم في جهود الجيش كانت معرفية ثقافية ترتكز على إقناع البدو بأهمية التعليم ثم تيسيره لهم؛فإلى جانب المدارس المتنقلة، كانت المدارس الداخلية،لتوفر للتلاميذ السكن والطعام والملبس والكتب والقرطاسية والرعاية الصحية كل هذا مجانا مضافا له المصروف الشهري.وراحت تمتد على اتساع خريطة الوطن؛في الزرقاء، ورم، والقويره،وأذرح،والجفر،والحسينية،ووادي عربه،والطويسه، والديسه، وغرندل،والريشه،وصبحا،والجيزه،وأخذت القرى تتشكل من حول المدارس تلك.
كانت البذرة الأولى للكلية هي ولادة جناح الثقافة مع مركز تدريب العبدلي 1946،ثم سريعاً ما تطور هذا الجناح ليضم بين جنباته (المدرسة الاعدادية) لتتطور إلى (المدرسة الثانوية) وفي العام 1959 وبمناسبة الاحتفال بتخريج الفوج الأول من المرحلة الثانوية صدرت الإرادة الملكية السامية بتسميتها بإسم (كلية الشهيد فيصل الثاني).
بقيت الكلية ماكثة في موقعها الجميل في العبدلي إلى أن انتقلت في العام الدراسي 1995/1996 إلى موقعها الحالي في منطقة طارق.
دفاترها تضم آلاف الخريجين.. الذين تبوأ معظمهم مواقع متقدمة في الحياة .. في يقيني أننا كلنا نحنّ لأيامها الجميلة..ونتعلق بذكراها..وبعبقها..وبذكرياتها..ونعتز بأيام عشناها بين جنباتها.. وبصداقات حيكت خيوطها المتينة في مرابعها..لكنها(الكلية) من حقها أن تساءلنا جميعاً ماذا فعلنا لها ؟ماذا قدمنا لمن يجلسون اليوم على مقاعدها.. ماذا قدمنا لمكتبتها..لمختبراتها.. لصفوفها.. لساحاتها.. لملاعبها..لأنشطتها.. لموازنتها..قبل سنوات قليلة التقطنا فكرة إنشاء نادي خريجيها..وانعقد الاجتماع اليتيم 25/5/2008 في نادي الضباط بالزرقاء لكننا فقدنا البوصلة مجدداً..ولا نعلم شيئاً عن مصير الفكرة، التي تاهت مجددا!!فهل من أمل في التلاقي من جديد..هذه دعوة مفتوحة لأبناء الكلية لمنحها بعضا من حقوقها علينا.
تحية للكلية..وسلام على معلميها..وخريجيها..وطلبتها..وتحية لك (محمّد) فهنيئا لك بني أن تشرفت ببنوتها الصالحة بإذن الله.
Bassam_btoush@yahoo.com