facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




بين لغتين


د. يوسف عبدالله الجوارنة
25-08-2020 01:16 PM

لا مَنْدوحةَ للطّبيبِ من لغتين؛ فاللغةُ (الثانية) هي اللغةُ التي يَتواصَلُ بها الطّبيبُ اليوم مع الآخرين في بُلدانِ العَالم، والأردنُّ ليس بِدْعًا بينها- في المُؤْتمرات والنَّدَوات العِلْميَّة المُتَّصلة بالعلوم الطبيَّة المُخْتلفة، ولا ضَيْرَ؛ لأنّ الطَّبيبَ بِعُلوّ هِمَّته واجتهادِه على نفسِه، يُتابعُ بها علومَه التي يَختصُّ فيها بَعْدُ؛ فيتعرَّفُ إلى كلِّ جديدٍ في رِحابِها ومَيادينها، ويَرْسمُ لنفسِه صورةً مُشْرقةً في خَريطةِ البَحْث العِلْميِّ الجَادّ، وبذلك يكونُ الطّبيبُ المُبدعُ مَوْجودًا في مُتُون الحَيَاة، ويَأْبى أنْ يُشارَ إليه في الهَوامشِ والعَتَبات.

أمَّا اللغةُ الأولى، اللغةُ الأمّ (اللغةُ العربيَّة)، فإنَّ حاجةَ الطَّبيبِ إليها في هذا البَحْرِ المُتَلاطمةِ أَمْواجُه، حاجةُ القَلْبِ إلى الشِّرْيان والوَريد؛ فبالعربيَّةِ يَتَواصلُ مع النّاسِ والمَرْضى، فَيُعينُهم على تَجَاوزِ يَأْسِهم، ويَمْنحُهم -بإذن الله- طاقةً إيجابيَّةً يَدورونَ فيها مَعَ الحَياة، فتَبْسِم لهم، وتَحْنو حُنُوَّه عليهم.

وبالعربيَّة يَجدُ الطَّبيبُ نفسَه في سياقِ ثقافةِ الأمَّة التي ينتمي إليها وحَضَارتِها، فإنّها كانتْ يومًا لغةَ العُلومِ في العُصُور االسَّالفة التي كانَ فيها للعربِ والمُسْلمين شُهُودٌ حَضَاريٌّ على العالَمين؛ فقد بَرَعَ علماءُ المُسْلمين في مَيَادينِ العُلومِ الأساسيَّةِ والتَّطبيقيَّة، وأذكرُ هنا نَمَاذجَ فريدةً منهم؛ فقد سَطَعَ نَجْمُ جابرٍ بنِ حيَّان (ت199هـ/ 813م) في الكيمياء، وأبو عليٍّ الرّئيسُ ابنُ سينا (ت428هـ/ 1038م)، أميرُ الأطبّاءِ في العُصُور الوُسْطى، وصاحبُ "القانون في الطّبّ"، العُمْدةُ في تَعْليم الطبِّ حتّى أواسِطِ القَرْنِ السَّابعَ عَشَرَ في جامعات أوروبّة، على حدّ تعبير الدكتور شوقي أبو خليل (ت1431هـ/ 2010م)، في كتابِه "الحَضَارة العَربيَّة الإِسْلاميَّة".

ومنهم أبو عليّ الحسنُ بنُ الهيثم (ت430هـ/ 1040م) نَجْمٌ في البَصَريّات والفيزياء، والنَّباتيُّ العَشَّابُ ابنُ البيطار (ت646هـ/ 1248م) رائدٌ في علم النّبات. ومنهم صَاحبُ "الحَاوي في الطِّبّ"، أبو بكر الرّازيّ (ت313هـ/ 925م)، وَصَفته المستشرقة الألمانيَّة زيغريد هونكة (Sigrid Hunke) (1913-1999م)، في كتابها المُنْصِف "شَمْسُ العَرَب تَسْطعُ على الغَرْب"، بأنَّه "أَحَدُ أَعْظم أَطبَّاء الإنسانيَّة إطلاقًا". ومنهم ابنُ زُهْرٍ الإشبيليّ (ت557هـ/ 1162م)، أَحَدُ مَشاهير الأطبَّاء في الأندلس، صاحبُ "التّيسير في المُداواة والتَّدبير"، الذي كانَ لترجمتِه إلى اللاتينيَّة والعبريَّة –كما يقول الدّكتور شوقي- أعظمُ الأثرِ في الطّبّ الأوروبّيّ.

ومنهم ابنُ النَّفيس (ت687هـ/ 1288م)، مُكتشِفُ الدَّوْرةِ الدَّمَويَّة الصُّغرى "الرّئويَّة"، فقد نقل الدّكتور شوقي -في كتابِه المُشارِ إليه- أنَّ الطّبيبَ المِصْريَّ مُحْيي الدّين التَّطَاويّ (1896- 1945م)، قَدَّم في سنة 1924م رسالةً عنوانُها "الدَّوْرة الدّمويَّة تبعًا للقَرْشيّ" (نسبة إلى "قَرْش"، وهي –كما في الزّركليّ- بلدة في ما وراء النّهر، والقَرْشيّ هو ابن النّفيس)- في جامعة فرايبورغ بألمانية، أكّد فيها أوّليَّةَ ابنِ النَّفيسِ في اكتشافها، وأنَّ مَنْ يَنْسُبها إلى الطَّبيبِ الإنجليزيّ وِلْيم هَارْفي (William Harvey) (ت1657م)، ارْتَكَبَ خَطأً؛ لأنّ هَارْفي دَرَسَ الطِّبَّ على طَبيبٍ إيطاليٍّ كان زَارَ دمشقَ، ودَرَسَ ابنَ النّفيس، وتَرْجَمَ ابنَ النّفيس دون أنْ يَذْكره، ثمَّ "بدأ هَارْفي يقول بنظريّته في الدَّوْرة الدَّمَويَّة في سنة 1616م، أي بعد ابن النّفيس بأربعة قرون".

وغيرُ ما ذَكَرْتُ كثيرٌ كثير؛ وكُلُّهم كانت اللغةُ العربيَّةُ أَدَاتَهم التي بها يُؤلِّفونَ أَسْفارَهم، ويُعلِّمون بها تَلاميذَهم. وإنْ شاءَ كلُّ طبيبٍ أنْ يَطّلع على أَخْبارِهم وأَحْوالِهم، فدونَكم كتابُ "عُيُون الأَنْباءِ في طَبَقاتِ الأَطِبَّاء"، للطَّبيبِ المُؤرّخ أبي العَبَّاس المَعْروفِ بابن أبي أُصَيْبِعَة (ت668هـ/ 1270م)، وهو سِفْرٌ نَفيسٌ يُعدُّ مَصْدرًا مُهمًّا لِمَن رَامَ تأريخَ العلوم الطّبيَّة عند العرب والمُسْلمين. ثُمَّ اكتملَ العَمَلُ بما ذَيَّلَه عليه الطّبيبُ المُؤرّخُ المِصْريُّ أحمد عيسى بك (1876-1946م) في سِفْره النّفيس "مُعْجم الأَطِبَّاء"، الذي نَشَرَه قبل وَفاتِه بأربعِ سَنَواتٍ، وأرَّخ فيه للأطبَّاءِ من سنة (650هـ/ 1252م) إلى سنة (1361هـ/ 1942م)، السَّنة التي صَدَرَ فيها.

ثُمَّ انْحَسَرتِ العَرَبيَّة -للأسف- بِانْحِسارِ مَدِّ المُسْلمينَ الحَضَاريّ، وما زالتْ إلى اليوم تُحاصِرُها اللغاتُ الأُخْرى –على غيرِ عادةِ لُغاتِ الأُمَمِ مِنْ حولنا- في التَّعْليمِ العالي، والبَحْثِ العِلْميِّ، والسِّياسَة، والاقتصاد، وغيرها مِن مَنَاحي الحَيَاة الأُخْرى. لذلك، لا مَنْدوحة للطَّبيبِ عن أنْ تكونَ اللغةُ العَربيَّةُ هُوِيَّتَه، يُمارسُ فيها جَنْبًا إلى جَنْبِ اللغةِ الثانيةِ فَضَاءاتِه المَعْرفيَّة، وبِهَا وَحْدَها شَعائِرَه الدِّينيَّة، وبذلك يُحَصِّنُ نَفْسَه من الذَّوَبان والانْصِهَار.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :