facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




مسيحيو المشرق إذ يدفعون ثمن الخرائط الجديدة للمنطقة كما لـ"يهودية الدولة"


د.عبدالحكيم الحسبان
25-12-2020 12:44 PM

في شهر ديسمبر من كل عام يحضر اسم المسيح، كما تحضر سيرته ورسالته وعذاباته وحيث كانت هذه الأرض هي المهد والمسرح لميلاد المسيح المجيد. وفي الحديث عن المسيح والمسيحيين تحضر صورة المشرق العربي الذي كان مهدًا للمسيحيّة، وبقي ولآلاف السنين مهدًا وحاضنة للتنوّع الديني والثقافي وحيث احتضن المشرق العربي عشرات المجموعات الثقافية والدينية التي كانت وما زالت جزءًا أصيلًا ومكونًا عضويًا من التاريخ الاجتماعي الممتد لهذه المنطقة من العالم.

المسيحية كانت وما زالت جزءًا من تاريخ المنطقة وتحديدًا الشق المشرقي منها، في حين مثّل مولد الإسلام جزءًا من تاريخ المنطقة بشقها الجنوبي الحجازي والنجدي الصحراوي. أتوقف كثيرًا عند اعتماد المسيحية التي ولدت على أرض فلسطين التقويم الشمسي في حين كان التقويم القمري هو التقويم المعتمد في الديانة الإسلامية وهي الدّيانة التي ولدت في الجزيرة العربية. المسيحيّة كانت أفضل تعبير عن حجم التحولات التي حدثت على أرض فلسطين المشرقية وحيث تحوّل الإنسان من العيش مطاردًا الحيوانات بهدف الحصول على لحومها التي كانت تؤكل نيئة إلى مجتمعات الزراعة وإنتاج الطعام، ومن مجتمعات التنقل والترحال إلى مجتمعات الاستقرار وحياة المدن وظهور الدولة والسلطة والكتابة. في مجتمعات الزراعة والفلاحة يتم تقسيم الزمن كما أيام العام وفقا لحركة الشمس، التي وفق حركتها يهطل المطر وينمو النبات وتنضج فيما بعد الثمار. دورة الشمس هي ذاتها دورة الزراعة والفلاحة، فكان التقويم في المسيحية شمسيًا في حين كانت التقويم القمري هو تقويم سكان الصحراء العربية وحيث دورة الحياة التي تقوم على التنقل وعدم الاستقرار تعتمد على دورة القمر لا على دورة الشمس.

في العقود الأخيرة عاش المشرق العربي نزيفًا كبيرًا ومدمرًا في الاقتصاد وفي البيئة وفي السّياسة، ولكني أجزم أن النزف الأكبر والأخطر كان ذلك النزيف لعناصر التنوع الديني والثقافي الذي لطالما ميّز المشرق العربي على مدى عشرات القرون. وفي العقود الأخيرة كان المسيحيون المشرقيون هم على رأس قائمة المستهدفين وحيث أريد للمنطقة أن تنزف مسيحييها كي تفقد ليس فقط أحد عناصر التنوع الديني والثقافي التي طالما ميزتها، ولكن ليفقد المشرق العربي واحدة من أهم محركات الحداثة والتحديث في المجتمعات المشرقية العربية وحيث كان المسيحيون دومًا هم رافعة للتحديث والتغيير في المجتمعات العربية والمشرقية تحديدا.

لم يكن مسيحيو المشرق يومًا بمثابة امتدادٍ ديموغرافي وديني للغرب المسيحي، بل كانوا دومًا مشرقيين وامتدادًا للمشرق العربي وأهله.

ولم يكن قلبهم غربيًا، ولم تكن هويتهم غربية الهوى بل كانوا دوما مشرقيين. ولم يلتقِ قلب المسيحيين المشرقيين مع الغرب كما كان يلتقي مع شركائهم المسلمين المشرقيين في الوطن. أجزم أن ليس قلبهم، بل عقلهم فقط هو من كان يذهب صوب الغرب ليلتقي مع عقل الغرب وعقلانيته وحداثته، وليأخذ من الغرب بعضا من عناصر علمه، وبعضًا من محركات حداثته وتطوره ليدخلها إلى المشرق العربي ليدفع به صوب الحداثة والتطور.

تلاقي العقل المسيحي المشرقي مع العقل الغربي هو من جلب للمشرق أول مطبعة في تاريخه ليدخل المشرق عصر الكتاب المطبوع ذات الانتشار الجماهيري ولتكون المعرفة معممة ولا تقتصر على النخب المحدودة العدد، وتلاقي العقل المسيحي المشرقي مع الغرب هو من بنى في المشرق أول جامعة في بيروت قبل أكثر من مئة عام ولتعرف المنطقة ظاهرة الجامعة والتعليم العالي. في البحث عن الجذور الأولى للمسرح والطب والهندسة والموسيقى في المشرق العربي لم يكن مسيحيو المشرق إلا روادًا، وحاملين للحداثة والتطور في هذا المشرق.

وأما في الحديث عن القلب والهوى المشرقيين لمسيحيي الشرق، فلا يمكن القفز عن اسم المسيحي المشرقي السوري جول جمال الذي فجّر البارجة العسكرية الفرنسية حين كانت تمارس العدوان في خسمينيات القرن الماضي على الشعب المصري، وليفتدي شعب مصر بحياته ودمه الذي هو أغلى ما يمكن لانسان أن يدفعه كثمن.

في الحديث عن المسيحيين وعن المشرق العربي لا يمكن فصل مكونات الحالة الثقافية فيه واعتبارها بمثابة مكونات منفصلة، وتعمل بصورة منفصلة، إلا إذا مارسنا الديماغوجية والعنصرية والتعسف العلمي والعقلي. ففي المشرق العربي لا ينتج المسيحي هويته ولا ويعيد إنتاجها بصورة منفصلة ومستقلة عن المسلم، بل ينتجها بصورة تفاعليه، إذ ينتج جزء من منظومة مماراسته اللغوية والثقافية والمعرفية بالتشارك الكامل مع المكونات الدينية الأخرى. المسلم ينتج هويته كما يعيد إنتاجها يوميا بالطريقة ذاتها.

يتفاعل سكان المشرق العربي مع بعضهم البعض ويؤدون التحية لبعضهم مستخدمين كلمة "مرحبا"، الكلمة ننتجها ونعيد إنتاجها في كل يوم ربما مئات ملايين المرات. لا يعرف المسلم الذي يستخدم لفظة مرحبا ليحيي بها شركائه في الوطن، ان كلمة مرحبا هي مزيج لكلمتين من اللغة الآرامية التي كتب بها الكتاب المقدس لدى المسيحيين، حيث كلمة "مار" تعني القديس أو السيد أو الإله، في حين تعني كلمة "حوبا" الحب أو الحضن أو العطف. المكونات المسيحية في الثقافة التي يعيشها المشرقي ويعيد إنتاجها يوميا تحضر المسيحية بمفرداتها وطقوسها وأطباقها. استحضر على الدوام نبتة "الريحان" التي بقيت حتى الأمس القريب جزءًا من بيت كل فلاحي وساكني مدن المشرق العربي بمسلميه قبل مسيحييه، وهي نبتة ترتبط كثيرًا بالمسيحيّة وتاريخها. إيقاع اليوم في المشرق العربي وطقوسه كما ممارسات الناس في الشارع وفي المنزل وفي السوق وتعبيراتهم اللغوية والموسيقية كما طقوسهم الدينية تختلط فيها عناصر الوجود المسيحي مع الوجود الإسلامي ومنذ عشرات القرون.

منذ عقود يعيش المشرق العربي نزيفًا صامتًا ومتصلًا لمسيحييه وتهشيما خبيثا لوجهه التاريخي الذي لطالما عرف به. ملايين بل ربما عشرات الملايين من المسيحيين المشرقيين يتم تهجيرهم قسرًا ليخرجوا وللأبد من المشرق العربي ومن المنطقة. تفريغ الشرق من مسيحييه لم يكن على الإطلاق بمثابة أضرار جانبية collateral damages غير مقصودة في سلسلة الحروب والصراعات التي عاشها المشرق العربي بل هو سياسة مقصودة وممنهجة ووضعت الميزانيات والاستراتيجيات والموارد البشرية والعسكرية والإعلاميّة والدبلوماسيّة لانجازه.

لم تكن من باب المصادفة أن تبدأ المنطقة نزف مسيحييها منذ أن نشأ الكيان على أرض فلسطين. الحقائق والأرقام تقول إن الوجود المسيحي في فلسطين قبل نشأة الكيان كان كبيرًا ووازنًا ومؤثرًا، والأرقام تقول إن نسبة المسيحيين كانت تتجاوز العشرين بالمئة من سكان فلسطين. سياسات الكيان الإسرائيلي الاقتصاديّة والحضرية استهدفت الوجود المسيحي كسكان بنفس القدر الذي استهدفت فيه المسيحيّة كعمارة وكثقافة وكدين. السياسات الإسرائيلية أثمرت في فلسطين وباتت نسبة المسيحيين لا تزيد عن ال 2 بالمئة من السكان.

تهجير المسيحيين بات هدفًا استراتجيًا لإسرائيل التي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي تحولات جذرية في بناها الايديولوجيّة وحيث تراجعت إيديولوجيا الجيل المؤسس للكيان الذي تمازجت فيها قيم العلمانية مع قيم اليسار وقيم الليبرالية لتحل محلها إيديولوجيا اليمين الديني المتشدد وحيث باتت إسرائيل دولة ليهودييها فقط وليس لكل السكان الذين يعيشون على ارضها بغض النظر عن دينهم وعرقهم.

في العراق كما في سوريا التي مثلت الخزان الديموغرافي الأكبر لمسيحيي الشرق استمر استهداف الوجود المسيحي، لم يكن من باب المصادفة أن يشهد سهل نينوى في شمال العراق وحيث الوجود التاريخي المسيحي في العراق ولادة "داعش" وجرائمها وعلى مرأى من العالم. في سهل نينوى العراقي كما في وادي النصارى السوري الملاصق للبادية السورية وحيث آلاف الشاحنات التي تنقل نفط أبي بكر البغدادي تحت مرأى العالم، مارس البغدادي المجازر بحق المسيحيين وكنائسهم في ريف حمص وبتواطؤ مطلق من طائرات التحالف، وصمت مطبق من قبل الإعلام المرتبط بطيران التحالف. في سهل نينوى وفي وادي النصارى أخذ الدواعش كل الوقت اللازم لهم لتغيير الوجه التعددي الديني والثقافي للعراق ولسورية، وليتم قذف مسيحيي سهل نينوى خارج المنطقة باحثين عن اللجوء وحيث استكملت سفارات الغرب المهمة بعضها بحسن نية وبعضها بسوء نية وطوية.

في نزف فلسطين لمسيحييها وفي نزف العراق وسوريا لهم، كان المطلوب وما زال هو تفريغ المنطقة من مسيحييها ومن عناصر التنوع الديني والثقافي ومن قوى الحداثة والتحديث فيها. في المخطط الذي صاغه اليمين الصهيوني وينفّذه ومال زال ينفذه اليمين السياسي الأمريكي كان المطلوب هو دويلات للسنة والشيعة والدروز والعلويين، وليس دولا قومية تعددية وبما يتيح للكيان الصهيوني الذي بات يتبنى مبدأ "يهودية الدولة" أن يشرعن إقامة دولة ذات لون واحد.

إقامة الدويلات المذهبية والطائفية يعطي للكيان الذي يستمد الدعم من دول الغرب العلمانية غير الدينية، وحيث الرأي العام لا يستسيغ فكرة دعم الكيان إذا كان لدولة دينية الشرعية الكاملة ليقول للغرب العلماني وجماهيره العلمانية، كيف لإسرائيل أن تكون دولة تعددية إذا كانت تعيش وسط عشرات الدول السنية والشيعية والدرزية والعلوية؟. ففي هذا المحيط يصبح من الواجب على إسرائيل أن تكون دولة يهودية وليهودها فقط. تفريغ المنطقة من مسيحييها وخلق كيانات جغرافية تعيش فيها مجموعات طائفية ينسف حتما مشروع دولة المواطنة ليحل محله مشروع دويلات الطوائف والعشائر المناقض بالمطلق لدولة المواطنة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :