لا أعرف من الذي اخترع أسطورة الخط الأحمر في موضوع الاقتتال الفلسطيني، إلا أنه وبالضرورة شخص لا يمتلك الإطلاع الكافي على التاريخ الفلسطيني ولم يتمكن من قراءة اليوميات الفلسطينية في مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية و توابعها والانشقاقات المتتالية التي أفرزت الظاهرة الفصائلية المتداولة.المشكلة أن المؤرخين في العصور القادمة سيواجهون صعوبة حقيقية في وضع تاريخ بدء الحرب الأهلية الفلسطينية الجارية حاليا في قطاع غزة و المرشحة بقوة للانتقال إلى الضفة الغربية خلال الأيام القادمة، ويبدو أن اتفاق مكة للأسف هو المعلم التاريخي الذي سيميز
هذه الحقبة من التاريخ، ولكن السؤال من هم الذين يتقاتلون؟
لنبدأ من الأعلى، من أمراء الحرب الذين كانوا في 1987 مجرد دمى ورقية وراء شخصيات تم العمل على إزاحتها في الموجة الثانية من التصفيات الإسرائيلية التي شملت بصورة أساسية شخصيتين لا يمكن الاختلاف على قيمة أي منهما وإن كان من الجائز الاختلاف بصورة كبيرة حول شخصيتهما، وهما خليل الوزير و صلاح خلف، وبمعنى آخر المرشحين الأساسيين لخلافة الختيار \"هكذا جرت العادة على تسمية ياسر عرفات في تلك الفترة\"، بينما تمت إزاحة شخصيات أخرى أقل أهمية مثل حكم بلعاوي وهاني الحسن بألاعيب سياسية مختلفة، وتكلفت أسباب بيولوجية ببقية الشخصيات القوية في مرحلة الانتفاضة الأولى التي وبرغم تجاوبها مع ثورة حقيقية للشعب الفلسطيني كان يمكن أن تمثل خطوة كيوم الأرض مثلا، إلا أنها أصبحت أيضا طوق النجاة الأساسي لحركة فتح التي دخلت في مرحلة كوما بعد الخروج من بيروت في صيف 1982، المشكلة ليست في الانتفاضة ذاتها، ولكن في الظواهر التي تبعت الانتفاضة بصورة أساسية، فلأول مرة يظهر تفاوت حقيقي بين مصالح فلسطينيي الداخل و الفلسطينيين في الشتات، وفي هذه الظروف تحديدا ظهرت حركة حماس التي هي الابنة الشرعية للانتفاضة الأولى بكل انجازاتها وأخطائها.
على الجانب الفتحاوي وفي وسط نظرية الأحذية و الوحل التي اخترعها المرحوم ياسر عرفات - ستصبح يوما بشهرة العصا و الجزرة المستخدمة بكثرة وفوضى في مختلف الأدبيات السياسية والإدارية - ظهرت شخصيات الظل التكتيكية الضيقة لتستلم دورا كبيرا خصوصا بعد وقوف العديد من الشخصيات الكبيرة على مسافة ما من أوسلو، شخصيات اعتبرها الفلسطينيون دخيلة تماما، وبدأت معها معاناة الشعب الفلسطيني منذ العام 1995، فالدولة العلمانية الموعودة التي ستبز ديموقراطيتها منافستها في اسرائيل وقعت تحت نير مختلف الممارسات القمعية للجهاز الذي عرف باسم \"جهاز الأمن الوقائي\" ويمكن السؤال عن \"أفرهولات الجبس\" التي كان يتكفل منتسبي ذلك الجهاز بتفصيلها لكل من يعترض أو ينتقد أو حتى يسخر من وجودهم الهش والكرتوني، وعليه بدأت حقبة صعود حماس التي بقيت ترتدي الزي الأخضر والأبيض \"المريح نفسيا\" و تطرح نفسها كبديل حقيقي لمافيا \"فتح\" في زي ما بعد أوسلو، طبعا قامت القيادة الجديدة للحركة ونظرا لضيق المساحة الجغرافية المتاحة و الظروف الانتاجية الريعية التي يعيش تحت وطأتها الشعب الفلسطيني بتطبيق منهج المافيا أو لتعريب المفهوم منطق فتوات نجيب محفوظ، وبالطبع تمسكت حماس بصورة \"سعد اليتيم\" (يمكن مراجعة ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ فيما يتعلق بهذه النظرية).
في وسط ذلك كله كانت شخصية الختيار تمثل قبان الميزان الذي صنع أسطورة الخط الأحمر في موضوع الاقتتال الفلسطيني، ولكن لا المساحة الجغرافية ولا الكعكة الاقتصادية المتاحة كانت ستسمح باستمرار الحركتين سوية، وعليه فقد بدأت عملية التخلص من الرؤوس الكبيرة، أولا الختيار الذي تطلب حلا دراميا ابداعيا وغير مكلف يزيحه عن الطريق دون أن يحوله إلى قديس، بالعكس فقد مثلت أيامه الأخيرة و صورته وهو يغادر مقره لفرنسا ثم عودته وسط فوضى العشيرة الفتحاوية قمة المرمطة لتاريخه، وثانيا كان الشيخ أحمد ياسين وبرغم أن حماس توعدت برد مزلزل – كعادتها طبعا – إلا أن ذلك لم يحدث حتى تاريخه، فقد كانت الحركة تعد للمعركة الجارية دون مواربة، ولكن الاستحقاق الانتخابي قلب الأوراق فالقانون الذي تم استيراده من جهة نعرفها جميعا، ليضمن بقاء أطول وأطول لحركة فتح أصبح هو مدخل حماس للوصول إلى الحكومة والتفرد بها، وبرغم فشلها في السيطرة على الأجهزة الأمنية إلا أنها استطاعت أن تقصي فتح عن وزارات مهمة وحيوية، ولكن التبدل في المواقع بهذه الصورة التراجيدية أجل ساعة الحسم بين الفريقيين.
حسنا من هم الذين يطلقون النار في الشوارع؟؟ ومن هم الذين يتبادلون زخات الرصاص في ردهات المستشفيات؟؟ إنهم أبناء الانتفاضة الأولى .. أطفال الحجارة لو تتذكرون، الأولاد الذين غادروا مقاعد الدراسة ليواجهوا وحدهم آلة حرب دموية وأشعلوا كبرياء الأمة، ولكنهم للأسف وبعد أن وضعت حرب الخليج الثانية أوزارها وبدأت موجة التسويات العالمية الكبيرة في المنطقة وجودا أنفسهم على قارعة التاريخ، دون نظام تعليمي حقيقي، دون خدمات صحية، دون اقتصاد يحمل في آفاقه فرصا للعمل وبناء المستقبل، وبالتالي كانوا الصيد السهل للتنظيمات السياسية المختلفة التي تكونت ضمن حركية الانتفاضة الأولى، أو التي هبطت بالبراشوت بأموالها ومناصبها المكفولة بأسولو وتوابعها.
لقد بدأت الحرب، وكما قالها الصحفي المصري جلال عامر \"تخلصت اسرائيل من الكبار عرفات و ياسين وتركت صبيانهم يخلصون على بعضهم البعض\" ولكن لا يجب أن ننظر لتلك المسألة من موقع المتفرج مع أن الذريعة الأخلاقية موجودة هذه المرة، ولم تكن موجودة في الانتفاضة الأولى، فالقتال سيتوقف في أسابيع أو أيام أو ساعات وربما قبل أن أنتهي من الكتابة، ولكن أسبابه لا يمكن أن تنتهي دون أن توجد طريقة حقيقية لإعادة تأهيل الشعب الفلسطيني الذي ينهي عشرين عاما من الثورة في الداخل هذه السنة، والمطلوب حكومة قوية تستطيع أن تعيد الحياة الفلسطينية إلى مستويات مقبولة اقتصاديا و اجتماعيا و تعليميا وصحيا.
الوضع صعب و مربك و مفجع وحتى عبد المعين (اللواء برهان حماد) لم يجد أمامه سوى دعوة الشعب الفلسطيني للنزول معه إلى الشارع، ولكنه لم يستطع أن يحميه من رصاص المتقاتلين.