facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




التوتر المجتمعي


م. أشرف غسان مقطش
15-08-2021 03:07 PM

يصف نوبوأكي نوتوهارا جانبا مما رآه بعين المراقب المقارن في مجتمع العاصمة المصرية قائلا:

"في أول مرة عام 1974 خرجتُ فيها من الفندق. إنها القاهرة! أنا لا أستطيع أن أنسى ذلك الإنفعال الذي كان يدور في داخلي، إنفعال رائع ما زال طعمه حيا حتى الآن، شعور مركَّب من المفاجأة والدهشة والإكتشاف والفرح.

بعد عشر سنوات من الزيارة الأولى كنتُ في القاهرة نفسها، ولكن كانت رغبتي في الخروج إلى الشارع قد ذبلتْ، كنتُ أريد أن أقلِّل عدد مرات خروجي قدر الإمكان، لم يكن السبب أنني أكره الغبار والضجة وحرارة الشمس القوية، بل كان السبب هو أنني {كنتُ أرى توترا شديدا يغطي المدينة كلها}. ولكنني لا أستطيع أن أتجاهل حياة الناس في هذه المدينة. كانت وجوههم تدخل إلى عيني وهم يمشون وكأن شيئا ما يطاردهم. {وجوه جامدة صامتة} و{طوابير طويلة} من الواقفين أمام «الجمعية» ومواقف الباص وغيرها، لقد رأيتُ الباصات المكتظة تجري، بينما يتعلق ركاب بالشبابيك والأبواب! يريد الناس أن يركبوا بأي، ثمن وفي هذا الإزدحام المحموم، ينسى الكثير من الرجال والنساء السلوك المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام كمسلمين. حتى في التاكسي، {يواجه الركاب اضطهادا}، فالسائق يختار الراكب حسب المكان الذي يريد الذهاب إليه، ويرفض أن يقل الشخص الذي لا يعجبه شكله أو المسافة التي سيقطعها، {شيء لا يصدق عندنا في اليابان}."*

يا لها من بداية بدأ بها المؤلف كتابه! صورة واقعية تكاد تكون حقيقية لما كانت عليه القاهرة في بعض النواحي عام (1974) م ثم عام (1984) م، ولربما ما زالت تلكم النواحي على هذه الصورة التي إطارها: الإضطهاد، وألوانها "جامدة صامتة" على خلفية من "توتر شديد يغطي المدينة كلها".

وصورة القاهرة في بعض مناحيها هذه تكاد تنطبق هذه الأيام على صورة عمان ومعظم المدن الأردنية بل أغلبها في المناحي التي تناظرها. وهي بالتأكيد ليست صورة حضارية، ولا تدنو من الرقي المجتمعي بشيء ولو قيد أنملة.

يوم الأحد الفائت، كان لدي موعد في مستشفى الجامعة الأردنية. وصلتُ شباك التسجيل حوالي الساعة الثامنة صباحا، وكان دوري عند الطبيب سادسا، وخرجت من المستشفى حوالي الساعة الحادية عشر والنصف صباحا. وكل ما أجراه لي المستشفى: مقابلة مع طبيب، وصورة أشعة (X)، وفحوصات دم وبول، ثم صرف لي نوعين من الأدوية؛ فلماذا استغرق الأمر معي نحو ثلاث ساعات ونصف وهو شيء لا يصدق لا في اليابان ولا في الواق واق؟

ذلك لأنني إنتظرت في عدة طوابير مختلفة الطول تبعا للحالة الخدمية التي يقدمها موظفو المستشفى! والحق أنهم يحاولون أن يؤدوا عملهم على أكمل وجه، وفي أقصى طاقاتهم، لكن المشكلة تكمن في قلة عددهم أولا، وفي قلة عدد المستشفيات الحكومية ثانيا في العاصمة عمّان تحديدا؛ فينعكس ذلك على اكتظاظ المستشفيات الحكومية القائمة حاليا بالأعداد الهائلة من المرضى والمراجعين.

لماذا وصلنا إلى هذه الحال المزرية؟ بصراحة لا أعرف، لكن ما أعرفه حقا هو الذل المرير الذي تذوقتُ طعمه في كل لحظة انتظار عشتها في تلكم الطوابير التي رأيت فيها "وجوها جامدة صامتة" تعلوها الكشرة الشاعرة نوعا ما بالإذلال الطابوري. لربما لا تقصد السلطة إذلال المجتمع بهذه الطوابير، لكن إن كانت السلطة لا تعلم أن المجتمع يشعر بالذل وهو واقف في طوابير تستغرق نصف نهاره على أقل تقدير لكي يتلقى العلاج المناسب لعلته؛ فلتعلم الآن وقبل فوات الأوان!

هذا في مستشفى الجامعة في عمّان، أما في غيره فحدِّث ولا حرج!

هذا من جهة، من جهة أخرى، كنت أستقل الحافلات العاملة على خط صويلح-البيادر في الذهاب إلى العمل والإياب منه إلى شقتي المُسْتأجَرة، لكنني، وبعدما تيقنتُ أن السلطة لم تقم بالواجب المطلوب منها واللازم لردع سائقي الحافلات عن تهورهم المسعور في السياقة ومسابقة بعضهم بعضا لأجل الفوز بأكبر غنيمة من الركاب، وطيشهم اللامسؤول عن حياة الركاب، وجشعهم اللامتناهي في حشر أكبر عدد ممكن من الركاب جالسين واقفين كأنهم في «علبة سردين»، وجزعهم الشديد في عدم إعطاء الوقت الكافي للصاعدين الحافلة للجلوس والنازلين منها لوصول الشارع، وهو شيء لا يصدق لا في اليابان ولا في غيرها من الدول المتحضرة، بعدما رأيتُ كل ذلك، وحفاظا على كرامتي أولا، وإنقاذا لروحي ثانيا، لم أعد أستقل تلك الحافلات الإبليسية، واضطررت مكرها أخاك لا بطل إلى إستقلال سيارات الأجرة، وتحمُّل إضطهاد بعض سائقيها لي إذا لم يرق لهم شكلي أو هندامي أو لم تناسبهم المسافة أو الوجهة، فشيء أهون من شيء.

ما يثير الحنق والغضب لدى المجتمع أن السلطة تبدو وكأنها لا تبالي بما يجري يوميا على خط سير حافلات مثل خط صويلح-البيادر. ومتى سوف تبالي؟ على الأرجح، عندما يتسبب سائق إحدى تلكم الحافلات بحادث مريع يودي بحياة العشرات من الركاب الفقراء المساكين ويصاب عشرات آخرون منهم بجروح تقعدهم على أسرَّة الشفاء، أي حتى تقع الفأس على الراس نستيقظ من سباتنا الحضاري وحتى الأخلاقي!

يكفي هذا الإستهتار بحياة المجتمع في حافلات الرعب! يكفي هذا الإذلال للمجتمع بسوط الإنتظار في الطوابير!

أحقا تريدون الإصلاح؟ حسنا، لعل البداية من هنا: إرحموا عزيز قوم ذُل في طوابير طويلة في المستشفيات والدوائر الحكومية، وأُرعب في حافلات يقودها سائقون كادوا أن يكونوا إنتحاريين!

زار الملك قبل أيام إحدى القبائل الكبيرة في هذا البلد الأمين، لا بأس في ذلك، بل نشد على أيديه لمواصلة جولاته وصولاته مع كافة شرائح المجتمع، في سبيل الحفاظ على اللحمة الوطنية بطرفيها: السلطة والمجتمع، ولا نقول لسيدنا إلا: "يعطيك العافية على جهودك الدؤوبة، التي لا تكل ولا تمل، في سبيل رفعة هذا الوطن ورقيه"، ولا ينكر تلك الجهود إلا جحيد نكير، وفي الوقت نفسه نمني النفس أن يقوم بزيارة خفية لإحدى المستشفيات التي تعج بالطوابير وتكتظ بالمرضى والمرافقين، كي يكون في أقرب مكان من المجتمع فيشعر حينذاك بحجم معاناة المجتمع بل مأساته!

قبل نحو أربعة أعوام، نُشر لي في هذه الزاوية مقال بعنوان (الطابور)** في محاولة مني لدق ناقوس التنبيه على خطورة الإستمرار في إستفزاز المجتمع قبل أن يتوتر في طوابير تنال من صحته أولا، وتستهلك قسطا كبيرا من طاقته ثانيا، وتهدر وقتا طويلا من يومه ثالثا.

واليوم، أعود وأدق ناقوس التنذير من التوتر الشديد الذي "يغطي المدينة كلها" قبل أن ينفجر حمما من الغضب الذي لا يُحْمَد عقباه، ولا يُخْمَد أواره.

ملاحظة:
العلامتان {...} خطان أحمران من الكاتب للتشديد على أهمية المفردة و/أو العبارة.

هوامش المقال:
*كتاب (العرب: وجهة نظر يابانية)، لمؤلفه نوبوأكي نوتوهارا، الطبعة التاسعة (2016)، منشورات الجمل، ص(6)

**https://www.ammonnews.net/mobile/article/332190





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :