تابعت بوسائل الإعلام خبرا يتناول اجراء احدى الجامعات امتحان للطلاب عن أغاني المطربتين أليسا ونانسي عجرم ، في البداية أخذتني الدهشة من اختيار الجامعة لهما ، ولكني سرعان ما تداركت ان كلا المطربتان لديهن من سنوات الغناء ما يتجاوز العشرين عاما يعني جيلين ، وان بعض أغاني اليسا تعبر عن حالات واقعية رغم اختلاف الرأي العام ما بين مستنكر و متقبل وسط هذا الجدل لمعت في ذاكرتي احدى أغنيات اليسا والتي تقول في جزء منها : (حيلف يلف و يرجعلي وهيجي قدامي ويدمعلي ، عشان أسامحه وأنسى واعديها حيشوفني حينهار قدامي و حيقول ولا يوم من أيامي ده مافيش ايام من بعديها)، فهل اللف والدوران سنة كونية؟ سنة الله في خلقه أم ماذا ؟!..
وتخيلت انه بكل لفة من لفات الارض او دورة من دورانها فهي تعود إلى حيث كانت وكذلك دورة حياة الانسان و الحيوآن و النبات، ولكن كان تركيزي في مسألة عودة الناس إلى الطبيعة بعد ان استهلكوا انفسهم بكل ما هو ضار و كيماوي و مصنوع اصبحوا يبحثون عن سلال القش و البندورة العضوية وبدائل الادوية من الاعشاب والعطارة .
هل فعلا احتاجت الناس دورة من الزمان لتقتنع انها كان يجب عليها ان تعود سريعا لا بل ان لا تذهب في تجارب تهدر الوقت و المال و الجهد و الصحة، بل و تلوث البيئة و الهواء والطعام و تعطل الارض عن مسارها الطبيعي وتغير المناخ وتشح المياه و تكثر الامراض و السرطانات ، انها فعلا دورة مكلفة و باهظة الثمن وهي تماما كمن يخطئ بحقك ويعود حاملا بين انيابه الندم ربما لا تسامح و لا تصالح فالذنب اقوى وانت اضعف من ان تنسى، فلا يغفر الذنوب (كافة) إلا الله.
فهل تسامح الارض، وهل تصفح السماء، وهل تعود على ما كانت عليه سابقا؟، ام سنعيش الدمار و الخراب المتزايد و المتراكم إلى مالا نهاية .
أنا مشكلتي مع اللفة وليس مع العودة فلماذا تكلف نفسك لفة ودوران و تكلف كرامتك ذل الاعتذار و تكلف الآخرين عبء الصلح والغفران بعد الانهيار في اللهجة المصرية يقال (ما كان من الاول)، من هنا نستنتج انه ليس كل التجارب مفيدة فبعض الحكمة تقر بأن السلامة احيانا تكمن في عدم الخوض في تجارب خاطئة مذموم عقباها .
وبالعودة إلى فكرة العودة تأملت المعنى ومدى وتحققه على أرض الواقع، وجدت انه بالفعل الناس بدأت تحن إلى ماضيها رغم اغراقها في زمن الفضاء الافتراضي الالكتروني، فتحن للقاء الصحبة تحت شجرة في الأرياف بعيدا عن صخب المدن، و الهروب الى الشواطئ لاصطياد الاسماك في أوقات الاجازات، واعداد أفران بلدية من الطين لطهي الطعام في المناطق الزراعية أو الصحراوية ، والبحث عن أصدقاء الطفولة واصطيادهم عبر الفيسبوك لاستعادة الزمن الماضي ولتبادل الذكريات المشتركة .
البعض الآخر يستدعي وجبة غذائية من ذاكرة الجدة لإعدادها بنفس الطريقة القديمة رغم مغريات الوجبات السريعة وبريقها وعناصر جذبها .
والكثير من الشعوب عادت للتداوي بالأعشاب بعد استفحال خطورة العلاج الكيماوي الحديث، كما عادت بعض الشعوب لوضع الماء في الأواني الفخارية والطهي عليها ، وانتشرت الزراعة العضوية بعيدا عن الكيماويات الي تسببت في انتشار السرطانات المختلفة ، وكذلك الحال الى الملابس والدقة في اختيار الملابس المصنوعة من العناصر الطبيعية كالأقطان والحرائر الطبيعية والاصواف ، وتهميش المنسوجات المصنوعة من البوليستر .
الطريف ان اليوتيوب مليء بالعديد من القنوات في دول الشرق والغرب التي تتفنن في تقديم إعداد طعام الجدات والطهي وطرقهم المتوارثة في تجهيزها ، وهكذا بدأ العالم في احياء ماضيه ، بعد ان اكتشف خسارتها من تجاهل هذا الماضي ونسيانه لعقود من الزمن ، فعاد إلى الطبيعة نادما على كل المراحل التي غفل بها عن موروثه الانساني الطبيعي والذي أثبت نجاحه في حياة أسلافهم .
ومورثاتنا الشعبية حبلى بالعديد من الحكم التي هي خلاصة تجارب الأجيال المتعاقبة ومنها من ( فات قديمه تاه ) ، ( وياما دقت على الراس طبول ) ، (اللي ما يسمع يأكل لما يشبع ) و( يا خسارته للي عمل النسوان تجارته ) (و الي من ايده الله يزيده) و(وذنبك على جنبك) وغيرها الكثير من هذه الامثولات تعكس خبرات عميقة في الحياة ومن يستمع اليها ويصدقها ويهضمها بعقله ينجي من مخاطر عديدة في الحياة يدفع الانسان ثمنها غاليا من ماله وصحته وشبابه وراحته النفسية ، و للأسف فان الكثير منا يصر اصرارا على خوض التجربة بنفسه ويشرب كاساتها حتى الثمالة ، وبعد ان يحقق خسائر فادحة نجده يلف ويلف راجعا إلى الوراء لينقذ ما يمكن انقاذه ، وربما يكون قد فات الأوان للنجاة .
أتمنى، ونحن نعيش في زمن تعدد مخاطره يوميا وتهلك الانسان في عمره وعافيته وعمله وقوت يومه ، ان يستفيد منذ بداية طريقه من خبرات السابقين عليه ، وان يستمع لآراء الخبراء والمفكرين دون الاغترار بالتحديث اليومي لمفردات يومية من علوم تكنولوجية وتقنيات وأساليب حياة مادية يلهث فيها وراء كل جديد وبراندات دون ان يحظى بالسعادة والطمأنينة وراحة البال .
فالتحديث اليومي لمعطيات حياتنا المعاصر قد يكون مفيدا في بعض جوانب الحياة ، لكن معظمه اكثر ضررا وفتكا بإنسان هذا العصر ، ومن الذكاء ان نستفيد من الخبرات لنختصر إضاعة الوقت والعمر والجهد فيما لا طائل من ورائه سوى الخسائر الفادحة فالتجارب فيها خسائر كبيرة وكما يقال في الأثر الشعبي ( الواحد ما بيتعلم الا من كيسه ) ، وقد لا تكون الخسائر فردية وانما يمتد تأثيرها على الأسرة والمجتمع سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا .
فالأب ينصح انه باختيار زوجة صالحة لان العرق دساس ، فلا ينتبه لمقال والده ويختار عكس ذلك فيطلق ويفشل في زواجه
وقد تنصح الام ابنتها بمراعاة حماتها وتحمل عصبيتها أحيانا بسب الكبر والمرض حتى يستقيم البيت بالمودة والتراحم وتجنب المشاكل ، لكنها تلقي كلمات أمها عرض الحائط وتعامل حماتها الند بالند وتعيش في جحيم وبعد عشرين عاما ترجع لأمها قائلة يا ليتني عملت بنصحك وخبرتك .
والشاب المراهق كثيرا ما يجد النصائح من الأبوين والأسرة الكبيرة لتجنب أصدقاء السوء خاصة ممن يتعاطون المخدرات وتتوالى نصائح الأطباء في الفضائيات والمدارس عن كوراث تعاطي المخدرات ، ولكن الشباب يرفضون الاستفادة من هذه الخبرات ويصرون على التجربة فيقعون في براثن الإدمان وبعد ان تضيع حياتهم يلفون ويرجعون الي ذويهم طالبين النجدة والخلاص .
يا ريت نتعظ من أغنية اليسا .. "حيلف يلف و يرجعلي" ..