حين تبكي الأرض وينحني التاريخ
أ. د. هاني الضمور
10-12-2024 03:06 PM
ليلة سقوط بغداد لم تكن مجرد لحظة عابرة في الزمن، بل كانت انحناءة موجعة في ظهر التاريخ. كانت بغداد، عاصمة الرشيد، تُسلم مفاتيحها بلا مقاومة، تُسلم شرفها لجيوش غريبة وأيدي خائنة. كانت تلك الليلة صرخة مكتومة في قلب كل عربي، صرخة ارتجت لها أرواح الأجداد وسقطت معها عروش الكرامة. لم تكن بغداد وحدها من سقطت، بل سقط معها شعور الأمة بأنها قادرة على الصمود. في تلك الليلة سقطت الأرض، وسقط الحلم، وسقطت آخر بقايا الكبرياء.
ثم جاءت سوريا، التي رفضت أن تكون امتدادًا لحكاية الذل. انتفضت بكل ما فيها من أمل ووجع، بكل ما في شعبها من شجاعة وغضب. خرج السوريون يهتفون للحرية، يحلمون بوطن يليق بأحلامهم وتضحياتهم. أسقطوا جدران الخوف وأعلنوها ثورةً ضد الظلم. لكنها لم تكن نهاية الحكاية، بل بداية طريق مليء بالجراح والآلام. سوريا اليوم ليست ضائعة، لكنها واقفة عند مفترق طرق. الثورة التي كسرت قيود الظلم تركت وراءها أسئلة ثقيلة لا تزال تنتظر الإجابة. كيف تُعيد بناء ما تهدم؟ كيف تُداوي جراح شعب نزفت طويلاً؟ وكيف تخلق مستقبلاً يحمل معنى الحرية التي نادت بها الثورة؟
وفي بيروت، آه يا بيروت، حكاية أخرى من الحزن الذي لا ينتهي. بيروت التي كانت يومًا أغنية للحياة تحولت إلى قصيدة مليئة بالألم. الاحتلال الاسرائيلي مرّ فوقها كالإعصار، وزرع الموت في شوارعها. بيروت التي كانت زهرة المدن أصبحت جرحًا مفتوحًا ينزف تحت وطأة الفساد والانهيار. ومع ذلك، بيروت لا تموت. حتى وهي تشتعل، يخرج من رمادها صوت يقول: “أنا هنا، وسأبقى”. بيروت، الزهرة الجريحة، قد ذبلت لكنها لم تسقط.
ولا يمكن أن ننسى غزة، الجرح الذي لا يندمل. غزة التي تواجه الموت يوميًا، كأن الحياة هناك قررت أن تختبر الصبر إلى حدوده القصوى. الاحتلال الاسرائيلي لم يترك لأطفالها فسحة للأحلام، ولا لشعبها فرصة للتنفس. كل يوم في غزة هو معركة من أجل البقاء، كل ليلة فيها تحمل وجعًا جديدًا. لكن غزة، مثل بيروت، لا تعرف الاستسلام. غزة لا تركع، غزة تقاوم، حتى لو كان العالم بأسره يغمض عينيه عن معاناتها.
ما بين بغداد وسوريا وبيروت وغزة خيط مشترك من الألم، لكنه ليس خيط اليأس. الخيانة التي طعنت بغداد لم تقتل كرامة أهلها، والثورة التي اشتعلت في سوريا لم تُطفأ، والجراح التي أصابت بيروت لم تكسر روحها، والموت الذي يحاصر غزة لم يُسكت صوتها.
الوطن العربي اليوم يئن تحت وطأة جراحه، لكنه لا يموت. الألم الذي يعبر الأجيال يحمل معه بذور الأمل. شعوب هذه الأرض، رغم كل شيء، لا تنكسر. قد تبكي بغداد، وقد تنزف دمشق، وقد تصرخ بيروت، وقد تقاوم غزة، لكن في قلب هذه الأمة نارًا لا تنطفئ. من بين الرماد، يخرج النور، ومع كل فجر جديد تعود هذه الأرض لتقول: أنا هنا، وسأبقى.