سقراط وأفلاطون وأرسطو: إرث الفلاسفة وضياع روح التعليم العالي
د. هاني الضمور
21-01-2025 10:40 AM
في عالمٍ يمتلئ بالجامعات والمعاهد، حيث يتنافس الأفراد على الشهادات والألقاب، تظهر تساؤلات عميقة حول ما إذا كان التعليم العالي اليوم يحقق الرؤية التي حلم بها الفلاسفة العظام: سقراط وأفلاطون وأرسطو. هؤلاء الفلاسفة جعلوا العقل والفضيلة محور وجود الإنسان، وتركوا إرثًا عظيمًا يشع بالنور والتأمل، لكنه اليوم يبدو مهددًا بالاختفاء وسط واقع أكاديمي يغرق في المظاهر وينحرف عن جوهر التعليم.
سقراط، الذي آمن بأن المعرفة تنبع من الأسئلة الحرة والحوار الصادق، قد يُصاب بالخذلان إذا رأى ما أصبح عليه التعليم في أيامنا هذه، فقد تحوّل إلى عملية آلية تسير في قوالب جاهزة، بينما باتت المناهج متخمة بالمعلومات التي لا تهدف إلى تحريك العقول، بل إلى ملء أوراق الامتحانات، تلك الأسئلة التي اعتبرها سقراط وقودًا للفكر، أصبحت اليوم محاصرة داخل جدران القاعات بأجوبة جاهزة. الفكر الحر، الذي شبّهه سقراط بطائرٍ يحلّق في فضاء الحقيقة، أصبح اليوم سجينًا في نظامٍ يحكم على النجاح بمعدلات الدرجات بدلًا من العمق الفكري.
أما أفلاطون، الذي حلم بمدينةٍ فاضلة يقودها حكماء يجمعون بين الفضيلة والمعرفة، سيجد أن حلمه المثالي قد أصبح مجرد وهمٍ يطارد السراب. التعليم العالي في عالمنا المعاصر تحوّل إلى سوقٍ تُباع فيه الشهادات، وتُقاس فيه النجاحات بالأرباح والتصنيفات العالمية، على حساب القيم العميقة التي أرادها أفلاطون، كالخير والمعرفة. المثالية أصبحت ضحية لمنظومةٍ تقدّس الكمية وتهمل الجودة.
أما أرسطو، الذي رأى في الفضيلة حالة توازنٍ بين الإفراط والتقصير، فإنّ ما يشهده التعليم اليوم من انحدارٍ في التوازن سيثير لديه شعورًا بالأسى. إذ انغمس النظام الأكاديمي في التفاصيل العلمية والمهارات التقنية، على حساب الأسئلة الكبرى المتعلقة بمعنى الحياة والوجود. المناهج، المليئة بالأرقام والمعادلات، لا تقدّم إجاباتٍ للأسئلة الأسمى التي يجب أن يطرحها التعليم. غاب التأمل في الذات والإنسانية، لصالح أهدافٍ سطحية تُرضي المؤشرات ولا تعبّر عن طموحات الإنسان الأسمى.
هذا الواقع الذي يهيمن على التعليم العالي انعكس بوضوحٍ على كلٍّ من الطلاب والأساتذة. الطلاب، الذين كان يُفترض أن يكونوا محور العملية التعليمية، تحوّلوا إلى أرقامٍ في قواعد البيانات، تُقاس قيمتهم بمعدلاتهم، لا بقدرتهم على التفكير النقدي أو الإبداعي. أما الأساتذة، فوقَعوا في فخّ البحث عن اعترافٍ عالمي وتصنيفاتٍ عالية، تاركين خلفهم البحث عن الحقيقة والجوهر. الأبحاث، التي كانت يومًا رمزًا للمعرفة، باتت تُنتَج بكثرةٍ دون أن تقدّم إضافة فكرية عميقة، وكأن الغاية ليست إثراء الفكر، بل إرضاء أنظمة التصنيف.
إذا أردنا إحياء روح التعليم العالي، فلا بد أن نستمد الإلهام من إرث الفلاسفة: سقراط وأفلاطون وأرسطو. علينا أن نعيد الاعتبار للسؤال كوسيلةٍ أساسية لفهم العالم، كما فعل سقراط، وأن نجعل التفكير النقدي والإبداعي في قلب العملية التعليمية. كما يجب أن نتعلم من أفلاطون رؤيته المثالية، لنحوّل الجامعات إلى أماكن تحتضن الفضيلة والإبداع، بدلًا من مصانع تمنح الشهادات دون روح. ومن أرسطو نستقي دروسًا في التوازن، لنوفّق بين التقنية والأسئلة الإنسانية الكبرى، وبين العلم والتأمل.
إنّ التعليم العالي اليوم بحاجةٍ إلى ثورة فكرية تعيده إلى جوهره الحقيقي، ليصبح فضاءً لصناعة أجيالٍ قادرة على التفكير الحر والإبداع وتحقيق التغيير الإيجابي. وكما قال سقراط: “إنّ الحياة التي لا تُفحص لا تستحق أن تُعاش”. فهل نحن مستعدون لفحص نظامنا التعليمي، وتحويله ليخدم الإنسانية والفضيلة، ويعيد للتعليم رسالته الحقيقية؟..