الإسراء والمعراج: غزة والقدس بين صمود الأرض ونداء السماء
أ. د. هاني الضمور
27-01-2025 11:31 AM
حادثة الإسراء والمعراج ليست مجرد ذكرى عابرة، بل هي خريطة أبدية تلهمنا في أحلك الظروف وأشدها قسوة، خريطة تعلّمنا كيف نحول الانكسار إلى نهوض وكيف نحول المحنة إلى منحة. واليوم، حين تتشابك معاناة غزة مع ما يحدث في القدس من انتهاكات يومية، تتجلى هذه الحادثة كرسالة استراتيجية تضيء الطريق لأمة أُثقلت بالجراح. تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب حول تهجير أهل غزة، وما يشهده المسجد الأقصى من اقتحامات وتدنيس، وما يعانيه أهله من تضييق، كلها مشاهد تعكس الوجه الحقيقي لصراع وجودي لا يقتصر على فلسطين، بل يمتد إلى روح الأمة وهويتها.
رحلة الإسراء التي ربطت بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت إعلانًا بأن قداسة الأمة وترابطها يتجاوزان كل الحدود. المسجد الأقصى، الذي تتصاعد فيه اليوم الاقتحامات من قبل المستوطنين تحت حماية الاحتلال، هو مركز الصراع. الاحتلال يسعى لفرض تقسيم زماني ومكاني، بينما أهل القدس يقاومون بصدورهم العارية ليحافظوا على عروبة المكان وإسلاميته. هذه المقاومة هي امتداد للرباط الذي بدأ منذ ليلة الإسراء، حين أصبح المسجد الأقصى جزءًا لا يتجزأ من الهوية الإسلامية. واليوم، غزة والقدس تقفان معًا في خط المواجهة الأول ضد كل محاولات اقتلاع هذه الهوية وتفكيكها.
تصريحات التهجير التي أطلقها ترامب ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي جزء من مشروع أكبر يهدف إلى تفريغ الأرض من أهلها، وتهويد القدس، وإبقاء غزة في عزلة أبدية. لكنها، في ذات الوقت، تذكير صارخ بأن المعركة الحقيقية ليست مع الاحتلال فقط، بل مع مشروع كامل يسعى لتفتيت الأمة واستنزافها في صراعات داخلية. غزة، بصمودها، ترد على هذه التصريحات بالبقاء والثبات، كما يرد أهل القدس بتشبثهم بأرضهم وحفاظهم على المسجد الأقصى كخط أحمر لا يمكن تجاوزه.
لحظة المعراج التي صعد فيها النبي ﷺ إلى السماوات تحمل رسالة عميقة تتجلى اليوم في القدس وغزة. المعراج كان كسرًا لقيود الأرض ورسالة بأن الطموح والكرامة لا يمكن حصرهما بحدود مرسومة. اليوم، حين يواجه المقدسيون محاولات تهجيرهم بالقوة، وحين تصمد غزة تحت حصار خانق، فإنهم يعيدون إحياء تلك اللحظة السماوية، ويثبتون أن الروح التي لا تنكسر قادرة على تحدي أي احتلال أو مخطط.
قيادة النبي ﷺ للأنبياء في المسجد الأقصى كانت إعلانًا رمزيًا لدور القيادة التي توحد ولا تفرق، تقود ولا تخذل. الأمة اليوم بحاجة ماسة إلى هذه القيادة، في وقت يعاني فيه المقدسيون من عزلة دولية، وأهل غزة من تهميش سياسي، بينما الأقصى يستصرخ أمة تنظر إليه بعجز. القيادة ليست ترفًا بل واجبًا وضرورة، لأن القدس وغزة هما نبض الأمة، وكل تخاذل في نصرتهم هو خيانة لمعاني الوحدة التي جسدتها رحلة الإسراء والمعراج.
ما يحدث اليوم في القدس هو امتداد لمعركة طويلة تستهدف كل ما ترمز إليه الأمة من قيم ووحدة. الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، التضييق على سكان القدس، محاولات تهجيرهم قسرًا عبر قوانين عنصرية، كلها أدوات تستخدمها سلطات الاحتلال لتحقيق مشروعها في تهويد المدينة وطمس هويتها الإسلامية. لكن درس الإسراء والمعراج يقول لنا إن هذه المعركة ليست معركة الفلسطينيين وحدهم، بل هي معركة الأمة كلها. غزة، رغم ألمها، تقف كخط دفاع أول عن الأقصى، تمامًا كما يقف أهل القدس كحماة البوابة الأخيرة.
الإسراء والمعراج ليست ذكرى تروى أو معجزة نحتفي بها، بل هي دعوة مفتوحة لكل من يرى في القدس وغزة رموزًا للصمود. الرسالة التي حملها النبي ﷺ في رحلته السماوية تُخبرنا اليوم أن النصر يبدأ من الإيمان بأن ما على الأرض هو امتداد لما في السماء، وأن المقاومة، مهما اشتد الظلام، هي طريق الحرية. غزة والقدس ليستا قضيتين منفصلتين، بل هما الروح والجسد، يقاومان معًا كل محاولات الاحتلال لتفتيت الأمة وسلب هويتها.
رسالة الإسراء والمعراج تقول لنا إن هذه الأمة، مهما انكسرت، قادرة على النهوض من جديد. القدس، التي تواجه التهويد، وغزة، التي تعاني من الحصار، هما شواهد حية على أن الصمود ليس خيارًا، بل قدر مكتوب لكل من يؤمن بأن الأرض لا تسقط مادام أصحابها متمسكين بها. الأقصى اليوم يستصرخ الأمة، وغزة تكتب بدمائها فصول الصبر، والرسالة واضحة: كما تجاوز النبي ﷺ محن الأرض ليصعد إلى السماوات، فإننا قادرون على تجاوز كل محنة إذا ما تمسكنا بإيماننا ووحدتنا وروح العمل الجماعي. القدس وغزة هما مفتاح النهضة، ونداء الإسراء والمعراج لا يزال يتردد في الأفق، بانتظار من يسمعه ويستجيب له.