في تحول استراتيجي يعكس إعادة تموضع الأردن على الخريطة الجيوسياسية، وقّع الأردن والاتحاد الأوروبي شراكة استراتيجية شاملة، مدعومة بحزمة تمويلية تصل إلى 3 مليارات يورو. هذه الشراكة تتجاوز البعد التقني، إذ تعكس إدراكًا أوروبيًا متزايدًا لدور الأردن كفاعل محوري في التوازنات الإقليمية، ليس فقط كعامل استقرار، بل كشريك استراتيجي في صياغة المشهد الجيوسياسي للمنطقة. كما تمثل هذه الاتفاقية نقطة تحول في السياسة الخارجية الأردنية، حيث تؤكد انتقال الأردن إلى دور المؤثر الإقليمي القادر على توجيه ديناميكيات التنمية المستدامة، وتعزيز استقلالية قراره الاقتصادي عبر سياسات تعتمد على الابتكار والتكامل الإقليمي.
ما يجعل هذه الشراكة استثنائية ليس حجم التمويل فحسب، بل توقيتها ودلالاتها الجيوسياسية. ففي خضم اضطرابات إقليمية متسارعة وإعادة رسم خرائط واهمة، يكرّس الأردن موقعه كلاعب سياسي استباقي، يرفض الانحصار في أطر تقليدية أو اختزال دوره في معادلات ضيقة. التحركات الدبلوماسية الرشيدة لجلالة الملك عبدالله الثاني، التي تُوّجت بتأمين هذا الدعم الأوروبي، تعكس مقاربة سياسية براغماتية توازن بين المصالح الوطنية والتحولات الدولية والدور الإستباقي في القيادة والممارسة السياسية، حيث يتحول الأردن من مجرد متلقٍ للمتغيرات إلى شريك في صناعتها، مسهمًا في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي وفق رؤية استراتيجية إستباقية قائمة على الاستقرار والتنمية المستدامة.
التحدي الحقيقي الذي يواجهنا اليوم ليس مجرد التعامل مع الضغوط المالية أو السياسية، بل التحرر من نمط التفكير الذي ينحصر في دوائر الجدل والتسويف، والإنخراط في توليد الحلول الفعالة والذكية وتصميم الفرص من نبض التحديات. لقد حان الوقت لوقف النزيف الناجم عن التسييس المفرط والانشغال بردود الفعل. آن الأوان للانتقال إلى معادلة جديدة تقوم على الفعل لا الانفعال، وعلى التخطيط الاستراتيجي لا المعالجات الطارئة. السؤال الجوهري لم يعد كيف نواجه الأزمات، بل كيف نحولها إلى فرص تعزز مناعتنا الاقتصادية والسياسية؟ كيف نصوغ سياسات تمكينية تستثمر في رأس المال البشري بدل أن تُهدر إمكانياته في دوائر الإحباط؟ كيف نبني نموذجًا تنمويًا متحررًا من الارتهان للمساعدات، قائمًا على الإنتاجية والابتكار؟ تلك هي الأسئلة التي يجب أن تشغل صناع القرار، بعيدًا عن استنزاف الطاقات في ردود الفعل المؤقتة أو الارتهان لمعادلات لم تعد صالحة لعالم متغير.
لا يمكن فصل أي نهضة وطنية عن تحديث اقتصادي حقيقي، يكون قائمًا على الكفاءة والاستدامة والتكافل. علينا أن ننظر إلى هذه الشراكة ليس فقط كمصدر تمويل، بل كفرصة لإعادة هيكلة نموذجنا الاقتصادي والتنموي، وإعادة النظر في طريقة إدارتنا للموارد. وهذا يتطلب قرارات جريئة لا تخضع للحسابات قصيرة المدى، بل تضع الأسس لنمو طويل الأمد يعتمد على الابتكار والتصنيع المعرفي والتوسع في قطاعات إنتاجية غير تقليدية تصل لكل مكان في المملكة ولا تترك أحدًا في الخلف وتمكننا من دخول أسواق جديدة. المضي قدمًا بالتحديث الاقتصادي لم يعد خيارًا، بل هو ضرورة حتمية لضمان مستقبل مزدهر ومُستدام.
لم يعد مقبولًا أن يُترك الأردن أسيرًا لسرديات الآخرين، سواء من الداخل أو الخارج. نحن أمام لحظة اختبار حقيقية، تتطلب منا أن نقرر: هل سنظل عالقين في دوامة ردود الفعل والانشغال بمواجهة الطروحات التي تسعى إلى تحجيمنا؟ أم أننا سنستثمر هذه المرحلة لتشكيل نموذج تنموي متقدم، يجعلنا أكثر قدرة على التأثير بدلًا من التأثر؟
إن قوة الأردن لم تكن يومًا في قدرته على التكيف فقط، بل في شجاعته على اتخاذ المسار الأصعب عندما يكون هو الأكثر صوابًا. واليوم، هذا هو التحدي الحقيقي أمامنا جميعًا.
من خلال الوحدة الوطنية والتركيز على التحديث الاقتصادي والابتكار، يمكننا أن نحول التحديات إلى فرص. هذا هو الأردن الذي يستحق منا كل هذا ، وهذا هو الأردن الذي سنبنيه معًا.