الأردن: جبهة داخلية صلبة وسر الصمود في وجه التحديات
أ. د. هاني الضمور
13-02-2025 01:34 PM
في قلب منطقة تموج بالصراعات والتغيرات، يبقى الأردن شامخًا، يواجه التحديات بثقة، يحمي استقراره بوعي شعبه، ويحصّن قراره المستقل بوحدة داخلية صلبة تزداد تماسكًا كلما اشتدت الضغوط. ليس بلدًا يعيش على ردود الأفعال، بل دولة تصنع سياستها بذكاء، وتحافظ على أمنها بإرادة شعبها، وتواجه الأزمات بحكمة قيادة تعرف أن البقاء ليس لمن يملك القوة وحدها، بل لمن يملك الإيمان بوطنه، والقدرة على الحفاظ عليه رغم العواصف.
لطالما كان الأردن مستهدفًا، ليس فقط بسبب موقعه الجغرافي الحساس، بل لأنه يشكل نموذجًا مختلفًا في منطقة اعتادت التقلبات. دولة متماسكة رغم قلة الموارد، ثابتة رغم المتغيرات، عصية على الاختراق رغم كل المحاولات. ليس سرًا أن الضغوط الخارجية لم تتوقف، ولم تكن يومًا عابرة، لكنها دائمًا تصطدم بجدار صلب من الوحدة الوطنية، وبشعب يدرك أن الأردن ليس مجرد وطن، بل هوية ومصير، ومستقبل لا يقبل المقامرة.
لم يكن الداخل الأردني يومًا ساحة للصراعات، ولا بيئة قابلة للانقسام، فحين تشتد الأزمات، تذوب الفروقات، وتتجلى الحقيقة الراسخة بأن هذا البلد لا يحميه السلاح وحده، بل تحميه الثقة المتبادلة بين الشعب وقيادته، والعلاقة التي لم تكن يومًا قائمة على الخوف، بل على الفهم العميق بأن المسؤولية مشتركة، وأن الحفاظ على الدولة واجب لا يتحمل طرف واحد وزره، بل هو التزام جماعي يشارك فيه الجميع.
التحديات الاقتصادية لم تكن غائبة، لكنها لم تكن يومًا سببًا في اهتزاز الولاء أو التشكيك في أولوية الاستقرار. العالم مليء بأمثلة لدول سقطت ليس بسبب الفقر، بل بسبب الصراعات الداخلية التي أضعفتها أمام العواصف الخارجية. في الأردن، كان الشعب على الدوام هو الدرع الأول، يدرك أن الأزمات لا تُحل بالتصادم، ولا تُدار بالفوضى، وأن الدول التي تخسر وحدتها لا تكسب شيئًا سوى الانهيار.
في محيط يتغير بسرعة، وبين قوى تحاول فرض أجنداتها، يثبت الأردن أنه ليس الحلقة الأضعف، وأن قراره الوطني ليس خاضعًا للمساومة. لا يبيع مواقفه، ولا يقبل أن يكون أداة في لعبة لا تخدم مصالحه، ولا يسمح لأي طرف بأن يفرض عليه مسارًا لا يعكس إرادة أبنائه. لم يكن الأمر سهلًا، ولم يكن بلا ثمن، لكنه كان دائمًا الخيار الوحيد، فالأردن الذي رفض الإملاءات، وبقي وفيًا لقضاياه، واستمر في التمسك بثوابته، لم يفعل ذلك لأنه الأقوى عسكريًا أو الأغنى اقتصاديًا، بل لأنه يمتلك عنصرًا أكثر أهمية: شعب يؤمن بدولته، ويقف خلف قيادته، ويعرف أن الاستقلال الوطني لا يُشترى، بل يُحمى بالإرادة والتكاتف.
القيادة الهاشمية لم تكن يومًا بعيدة عن نبض الشارع، ولم تكن معزولة في برج سياسي منفصل عن الواقع. في كل أزمة، كان القرار ينبع من رؤية متوازنة، تراعي مصلحة الدولة وتحفظ كرامة المواطن. لم يكن النهج قائمًا على الوعود الفارغة، بل على المصارحة والمواجهة المباشرة للحقائق. الأردنيون لم يسمعوا يومًا من قيادتهم أن الأوضاع مثالية، لكنهم سمعوا دائمًا خطابًا واقعيًا يؤكد أن الحلول لا تأتي بالانفعال، بل بالعمل المشترك والتصميم على تجاوز الصعاب.
لم تكن العلاقات الدولية يومًا بديلًا عن قوة الداخل، ولم تكن التحالفات الخارجية سببًا في استقرار الدول التي لا تملك تماسكًا داخليًا. الأردن فهم هذه المعادلة جيدًا، فلم يراهن على أحد أكثر مما راهن على شعبه، ولم يبنِ سياساته على وعود الآخرين بقدر ما بناها على ثقته بقدرة الأردنيين على الصمود والتكيف والتحدي. لم يكن بلدًا تابعًا، بل كان دائمًا شريكًا يحظى بالاحترام، لأن من يعرف كيف يحمي وحدته، يعرف أيضًا كيف يفرض نفسه في المعادلات الكبرى.
في أوقات الأزمات، يكون الشعب هو الاختبار الحقيقي لصلابة الدول، وفي الأردن أثبتت كل تجربة أن الرهان على الجبهة الداخلية هو الرهان الصحيح. الذين اعتقدوا أن الضغوط الخارجية قد تضعف الدولة، اكتشفوا أن الداخل أكثر قوة مما تصوروا، وأن الأردنيين لا يلتفون حول دولتهم في الرخاء فقط، بل في الشدائد أيضًا. حين حاول البعض زعزعة الثقة، كانت النتيجة عكسية، وحين تصور آخرون أن الظروف الاقتصادية قد تكون كافية لإثارة الفوضى، جاء الرد من الشارع نفسه، بأن الأردن ليس ساحةً للاضطراب، وأن الاستقرار ليس ترفًا، بل ضرورة لا تقبل المجازفة.
ليست المساعدات الخارجية هي التي تحمي الأردن، وليست الاتفاقيات وحدها التي تبقيه قويًا، بل هو هذا النسيج الوطني المتماسك، وهذه القناعة الراسخة بأن الوطن لا يُحفظ بالمطالبات العابرة، بل بالعمل المشترك، وبالوعي الذي يجعل كل أردني يدرك أن الدولة ليست مسؤولية القيادة وحدها، بل هي مسؤولية الجميع.
في مشهد دولي تتغير فيه التحالفات، وتتحرك فيه القوى الكبرى وفق مصالحها، يبقى الأردن ثابتًا، لا يساوم على مواقفه، ولا يبدل ثوابته، ولا يخضع إلا لصوت شعبه. هذه ليست مجرد كلمات، بل حقيقة عاشتها الأجيال، وأثبتها التاريخ، وستظل قائمة ما دام هناك شعب يعرف أن هذا الوطن يستحق الصمود، وأن وحدته ليست شعارًا، بل هي السلاح الأول والأقوى في مواجهة أي تحدٍ قادم.