المدينة العمياء: استعارة قرآنية لطمس الوعي واغتصاب الحقيقة في عالم اليوم
أ. د. هاني الضمور
19-02-2025 10:45 PM
في عالم اليوم، حيث تنتشر الحروب، وتُطمس الحقائق، ويُعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق مصالح القوى الكبرى، تبرز رواية العمى للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو كتحليل أدبي عميق لواقع بات فيه العمى ليس فقط فقدانًا جسديًا، بل فقدانًا فكريًا وأخلاقيًا. وكما جاء في القرآن الكريم:
﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46).
اليوم، نشهد كيف يتحول البشر إلى أدوات في منظومة عالمية تُحكم بقبضة الإعلام الموجّه، والسياسات الاستعمارية الجديدة، وحروب المعلومات، حيث يتم تغييب الحقيقة عمدًا، ويتم فرض العمى على الشعوب لتظل خاضعة لمصالح القوى المهيمنة.
كما هو الحال في الرواية، حيث ينتشر وباء العمى بسرعة دون سبب واضح، نجد اليوم كيف يتم فرض العمى على المجتمعات عبر الدعاية الإعلامية، والحروب النفسية، والرقابة الرقمية، مما يجعل الناس يعيشون في واقع مصطنع يخدم أجندات معينة.
من الاحتلال العسكري إلى الاحتلال الفكري، يتم التحكم في وعي الأفراد عبر المعلومات المزيفة، تمامًا كما يحدث في الحروب الجارية اليوم في فلسطين والسودان وأماكن أخرى، حيث يتم التلاعب بالسرديات لتبرير الظلم والاستعمار. قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ (طه: 124).
هذا العمى السياسي والاجتماعي هو الذي يُنتج الحروب، ويُغذي النزاعات، ويبرر المجازر، حيث تُرتكب الفظائع تحت غطاء “الشرعية”، ويُسحق المستضعفون تحت وطأة المصالح الاستعمارية.
في الرواية، يؤدي العمى إلى انهيار القيم، وانتشار الفوضى، وفرض منطق القوة والهمجية. وهذا ما نشهده اليوم على نطاق عالمي، حيث تتحكم القوى الكبرى بمصائر الشعوب، وتسلبها حقها في تقرير مصيرها، وتمارس القمع تحت مظلة القانون الدولي.
الكيانات الاستعمارية الحديثة، سواء كانت أنظمة سياسية، أو اقتصادية، أو حتى تكنولوجية، تُبقي الشعوب في حالة “عمى” حتى لا تنتفض على الظلم، كما قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).
نجد اليوم كيف يتم إخفاء الجرائم الحقيقية، وكيف يُعاد رسم خريطة العالم دون أي اعتبار لحقوق الشعوب، وكيف يُبرر الاستعمار الحديث تحت مسميات مثل “الديمقراطية”، و”حقوق الإنسان”، بينما الحقيقة أن العمى هو ما يحكم العالم.
تمامًا كما بقيت زوجة الطبيب الشخصية الوحيدة المبصرة في الرواية، نجد في الواقع المعاصر أفرادًا وجماعات تقاوم العمى الجماعي، وتحاول كشف الحقيقة رغم القمع.
إنهم الصحفيون المستقلون، والمثقفون الأحرار، والنشطاء الذين يفضحون الظلم، والذين يذكروننا بأن الحق لا يُطمس إلى الأبد، كما قال الله تعالى:
﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الْأَلْبَابِ﴾ (الرعد: 19).
اليوم، نشهد حملات تضليل ممنهجة، واغتيالات فكرية، وتكميمًا للأصوات التي تحاول كشف الحقيقة، تمامًا كما كان يحدث عبر التاريخ عندما كانت القوى الظالمة تخشى من ظهور “المبصرين”.
في نهاية الرواية، يستعيد بعض الأشخاص بصرهم، مما يرمز إلى إمكانية استعادة الوعي، وكما يعلمنا القرآن الكريم، فإن الخروج من العمى الفكري يكون بالبحث عن الحقيقة، وعدم الركون إلى الظلم، وإعمال العقل والتفكير النقدي. قال الله تعالى:
﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ (الأنعام: 104).
إن المعركة اليوم ليست فقط على الأراضي أو الثروات، بل هي معركة على العقول والوعي. القوى الكبرى تدرك أن التحكم بالفكر أهم من التحكم بالسلاح، ولذلك يتم نشر العمى الممنهج عبر الإعلام، والتكنولوجيا، والتعليم، لخلق شعوب لا تسأل ولا تفكر.
ولكن كما أن هناك عميانًا، هناك أيضًا من يبصرون، وهناك من يقاومون هذا الظلام، ويعملون على كشف الحقيقة، تمامًا كما فعل الأنبياء والمصلحون عبر التاريخ.
يبقى السؤال الأهم: هل سنسمح لأنفسنا بأن نعيش في “مدينة عمياء” تُدار من قبل قوى لا ترى إلا مصالحها؟ أم أننا سنبحث عن الحقيقة، ونفتح أعيننا، ونرفض أن نكون مجرد أدوات في لعبة سياسية عالمية؟
لقد حذر القرآن الكريم من العمى الفكري، لأنه أشد خطرًا من العمى البصري، وكما قال الله تعالى:
﴿وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ (الإسراء: 72).
إن الخروج من “المدينة العمياء” ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب وعيًا، وبحثًا عن الحقيقة، ورفضًا للخضوع للأنظمة التي تُمارس العمى الجماعي. الخيار في النهاية لنا: إما أن نفتح أعيننا، أو نظل غارقين في ظلام الخداع والجهل.