الجامعة بين الأكاديميا والممارسة: هل نتمسك بالماضي أم نواكب المستقبل؟
أ. د. هاني الضمور
06-03-2025 02:06 AM
في خضم الجدل المتصاعد حول تعيين أساتذة جامعيين لا يحملون درجات علمية عليا، تتبدى معضلة فكرية خطيرة تتعلق بمفهوم التعليم الجامعي وحدوده بين الأكاديميا الصرفة والممارسة العملية. يتبنى البعض موقفًا متصلبًا يرى في هذه التعيينات تراجعًا عن المعايير الأكاديمية، بينما يغفل آخرون حقيقة أن الجامعات الكبرى عالميًا لم تعد تقتصر على نموذج الأستاذ الأكاديمي التقليدي، بل تبنت منذ عقود نهجًا أكثر شمولًا، يدمج بين المعرفة النظرية والتجربة العملية، بين البحث العلمي والخبرة المهنية، بين الأستاذ الباحث والأستاذ الممارس.
التعليم الجامعي ليس كيانًا جامدًا منغلقًا على ذاته، بل هو منظومة حية تتطور مع تطور احتياجات المجتمع وسوق العمل. في عالم اليوم، لم يعد بإمكان أي جامعة تحترم نفسها أن تقدم لطلابها معرفة نظرية معزولة عن الواقع، ولا أن تكتفي بتخريج أجيال تتقن التنظير دون القدرة على التطبيق. لهذا السبب، أصبح من الضروري وجود أساتذة ممارسين إلى جانب الأكاديميين، خاصة في التخصصات التي تتطلب خبرة عملية عميقة لا يمكن اكتسابها من الكتب وحدها.
تعد جامعة هارفارد نموذجًا رائدًا في هذا المجال، حيث تعتمد على أساتذة ممارسين في كلية الأعمال، ممن شغلوا مناصب تنفيذية عليا في كبرى الشركات العالمية مثل “جوجل” و”ماكينزي” و”مايكروسوفت”، ليقوموا بتدريس طلابهم استراتيجيات السوق، والإدارة، والابتكار من واقع خبراتهم المهنية. في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، لا تقتصر هيئة التدريس على حملة الدكتوراه فقط، بل يتم الاستعانة بمبتكرين ورجال أعمال ومهندسين بارعين لإثراء المساقات التطبيقية، خاصة في مجالات التكنولوجيا وريادة الأعمال. أما جامعة ستانفورد، فتقدم نموذجًا فريدًا عبر الاستعانة بممارسين محترفين في كليات الإعلام والتصميم والتكنولوجيا، حيث يتولى كبار الصحفيين ورواد التكنولوجيا تدريس مساقات متخصصة، استنادًا إلى تجاربهم المباشرة.
في كليات إدارة الأعمال، من الطبيعي أن يشارك مديرون تنفيذيون ناجحون في تدريس الطلاب استراتيجيات السوق والتخطيط الاستراتيجي، كما هو الحال في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، حيث تضم هيئة التدريس مستشارين اقتصاديين وخبراء ماليين من “وول ستريت” بجانب الأكاديميين. في كليات الهندسة، لا غنى عن مهندسين محترفين يربطون بين النظريات والتطبيقات الصناعية، كما هو الحال في جامعة كامبريدج التي تستقطب خبراء من كبرى شركات التكنولوجيا للعمل ضمن فرق التدريس. في كليات الإعلام والصحافة، لا يمكن لأي منهج دراسي أن يكون كاملًا دون وجود صحفيين محترفين ينقلون للطلاب أسرار المهنة من واقع تجربتهم، كما يحدث في جامعة كولومبيا التي تعتمد على صحفيين من “نيويورك تايمز” و”رويترز” لإثراء الجانب التطبيقي في تدريس الصحافة الاستقصائية والإعلام الرقمي.
لكن بين ضرورة هذا النهج وسوء تطبيقه أحيانًا، ينشأ الالتباس. المشكلة ليست في وجود الأساتذة الممارسين، بل في عدم فهم دورهم الحقيقي. فهم لا يحلون محل الأكاديميين، ولا يشكلون بديلاً عن البحث العلمي، بل يمثلون إضافة نوعية تعمل على سد الفجوة بين الجامعة وسوق العمل. التحدي الحقيقي لا يكمن في قبول هذا النموذج أو رفضه، بل في كيفية تطبيقه وفق معايير صارمة تضمن اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب. فكما أن الجامعة لا تقبل أنصاف الأكاديميين، لا ينبغي لها أن تقبل أنصاف الممارسين الذين لا يملكون من الخبرة سوى العناوين.
اللافت أن هذا الجدل يثار وكأن الجامعات قد قررت فجأة التخلي عن معاييرها الأكاديمية وإسناد التدريس لأي شخص دون ضوابط. في الواقع، هذا تصور ساذج يتجاهل أن تعيين الأساتذة الممارسين يخضع في الجامعات المرموقة إلى تقييمات دقيقة تشمل الخبرة العملية الفعلية، الإنجازات المهنية، والقدرة على نقل المعرفة بأسلوب تعليمي فعال. المشكلة ليست في المبدأ، بل في الممارسة.
ما يحدث اليوم هو حالة من الجمود الفكري أمام تطور طبيعي لمنظومة التعليم، وكأن البعض يصر على أن تبقى الجامعات حكرًا على النظريات، رافضًا أي محاولة للخروج من القوالب التقليدية. لكن الحقيقة أن الجامعات التي تصر على الانغلاق على نفسها، وتكتفي بتخريج طلاب يتقنون استرجاع المعلومات دون امتلاك أدوات تطبيقها، إنما تحكم على نفسها بالتراجع، وتفرّط في رسالتها الحقيقية.
العالم يتغير، والمعرفة لم تعد حكرًا على قاعات المحاضرات، وسوق العمل لم يعد ينتظر من الجامعات أن تزوده بخريجين يحملون شهادات دون مهارات. إذا كانت الجامعات تسعى فعلاً للحفاظ على دورها الريادي، فإن عليها أن توازن بين الأصالة والتحديث، بين الأكاديميا والممارسة، بين النظري والتطبيقي. أما التشبث بالنماذج التقليدية ورفض التطوير بحجة الحفاظ على “النقاء الأكاديمي”، فهو في حقيقته مقاومة عبثية لعالم يتجه بخطى ثابتة نحو المستقبل.