أمي الحبيبة .. عن نساء غزة أحدثكِ اليوم
أ. د. هاني الضمور
08-03-2025 02:17 PM
أمي الغالية، رحمكِ الله وأسكنكِ فسيح جناته. كم تمنيتُ لو كنتِ هنا اليوم، في هذا اليوم الذي يحتفي فيه العالم بالمرأة، ليكون لكِ نصيب من الكلمات، من الذكرى، من الفخر الذي لطالما حملته لكِ في قلبي. لكنني اليوم، يا أمي، لا أحدثكِ عن أي امرأة، بل عن نساءٍ لم يعد بإمكان القواميس وصفهن، نساءٍ لم يعدن مجرد أمهاتٍ وزوجاتٍ وشقيقات، بل صرن أسطورة، وصوتًا يعبر من بين الركام ليهزّ ضمير العالم. أحدثكِ، يا أمي، عن نساء غزة.
أمهاتُ الأملِ في زمن الموت
أمي، لو رأيتِ غزة اليوم، لرأيتِ النساء هناك يقفنَ على خط النار بلا أسلحة، بلا دروع، لكنهن أقوى من الحديد، وأصلب من الجدران التي تهاوت من حولهن. كنتِ ستسمعين كيف تلد النساء تحت القصف، كيف يدفنّ أبناءهن بأيديهن، كيف يصرخن بصمتٍ فلا يسمعهن أحد، لكنهن لا ينكسرن.
في غزة، لم تعد المرأة مجرد ربة منزل، أو معلمة، أو طبيبة. لقد تحولت إلى مسعفة تقتلع الضحايا من تحت الأنقاض، إلى مناضلة تحمل جثمان طفلها ثم تعود لتكمل طريقها، إلى شجرةٍ تضرب جذورها في الأرض رغم أن الأرض نفسها باتت حفرةً من الجحيم. النساء هناك لا يملكن الوقت للبكاء، ولا ترف الحياة عليهن بترف الحزن. ينهضن من بين الركام، يجففن دموع أطفالهن، ويكملن المسير وكأنهن لا يعرفن معنى الانكسار.
نساءٌ بحجم الأرض والقضية
أمي، كنتِ دومًا تحدثينني عن النساء القويات، عن أولئك اللواتي لا تهزمهن الحياة مهما قست. لو كنتِ هنا اليوم، لرأيتِ أقوى نساء العالم، ليس في المؤتمرات، ولا على منصات التكريم، بل في أزقةٍ تضيق بالموت، في مستشفياتٍ بلا دواء، في بيوتٍ أصبحت قبورًا لأحلام ساكنيها.
هناك، حيث تصبح الحياة معجزة، تصرّ النساء على صنعها. يطهون الخبز بما تبقى، يزرعن الورد في حدائق لا ترى الشمس، يغزلن من وجعهن صوتًا يرفض أن يُدفن تحت الركام. هنّ من يكتبن التاريخ اليوم، لا بالحبر والورق، بل بالدمع، بالدم، بالأمل الذي لا يموت رغم كل شيء.
صوت لا يسكت.. وقلب لا ينكسر
أمي، العالم اليوم يحتفل بيوم المرأة، يوزعون الأوسمة، يتحدثون عن الإنجازات، يكتبون المقالات الطويلة. لكن أخبريني، أليست المرأة التي تخوض حربًا مع الموت دون أن تخشى الهزيمة أولى بالاحتفاء؟ أليست تلك التي فقدت بيتها، وأسرتها، ووطنها، ومع ذلك لا تزال تحمل طفلها في حضنها، وتخبئ في عينيه حكاية الغد، هي التي تستحق أن يُكتب عنها؟
في يوم المرأة، لا أحتاج إلى الشعارات الرنانة، ولا إلى الكلمات المنمقة. كل ما أريده هو أن يصل صوت نساء غزة إلى العالم، أن يعرف الجميع أنهن لا يحتجن إلى دموع التضامن، بل إلى ضمير حيّ، إلى عدالة، إلى أن تتوقف الحرب التي التهمت أحلامهن وأحلام أطفالهن.
أمي، النساء في غزة لا ينتظرن من يكتب عنهن، لأنهن يكتبن بأنفسهن سطور المجد. إن كنا نبحث عن القوة، فهي هناك، تحت الركام، بين الأنقاض، في عيون الأم التي تمسح دموع ابنتها وتخبرها أن الغد سيكون أجمل، رغم أنها لا تملك أي يقين بذلك.
هنّ أعظم نساء الأرض
أمي، لو كنتِ هنا اليوم، لكنتِ بكيتِ فخرًا بهنّ، لكنتِ دعوتِ لهنّ، لكنتِ أخبرتِ العالم أن القوة ليست في العضلات، ولا في الكلمات، بل في القلب الذي لا ينكسر، في الروح التي لا تستسلم.
في يوم المرأة، لا أملك إلا أن أقول: نساء غزة، أنتنّ الشرف، أنتنّ الأمل، أنتنّ أعظم نساء الأرض.