يوم المرأة .. جوهر الحقوق لا الشعارات
أ.د وفاء عوني الخضراء
08-03-2025 03:02 PM
قد يختلف البعض حول أهمية اليوم العالمي للمرأة، لكنه يظل فرصة ثمينة تتجاوز كونه مناسبة رمزية؛ فهو احتفاء بدور المرأة المحوري في بناء المجتمعات، وتكريس للقيم الإنسانية التي شكلت عبر التاريخ أساسًا لتماسكها: الحب الأمومي، التكافل، الرعاية، العشرة بالمعروف، حمل المسؤولية بأمانة، والإيثار.
هذه القيم ليست مجرد مفاهيم مجردة، بل هي قوة دافعة في بناء الحضارات وتعزيز الاستقرار الإنساني، وليست محصورة بالمرأة فقط. ففي عالم يشهد أزمة أخلاقية وانقسامات متزايدة، يصبح هذا اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى لتذكيرنا بأن القيم التي تجمعنا من الداخل أقوى من الأيديولوجيات الدخيلة التي تفرقنا.
من الضروري أن نعي أن القضايا الحقوقية للمرأة ليست وسيلة لتجريم المجتمعات أو صناعة صراعات وهمية، بل من الضروري أن تكون قضايا تنموية جامعة تُنظم المجتمع ككل حولها لتمتين الاقتصاد والإنتاج والاستقرار المجتمعي.
قضايا المرأة ليست مجرد ملفات معزولة، محصورة في نقاشات نخبوية تجري خلف أبواب مغلقة، بل هي قضايا جوهرية تمتد إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التنموية للمجتمعات. فمشاركتها الفاعلة، وحصولها على فرص متكافئة، وضمان حقوقها الأساسية هي عوامل رئيسية في تعزيز التنمية التكافلية وبناء مجتمعات أكثر تماسكًا وإنصافًا. لهذا، إذا كنا ندافع عن حقوق المرأة حقًا، فلا يجوز أن تُترك أي امرأة أو فتاة أو مجتمع خلف الركب. لا يمكن الحديث عن تمكين المرأة دون الاعتراف بأن المزارعات، العاملات في المصانع، عاملات الوطن، الحرفيات، السباكات، الحدّادات، والسائقات هن جزء أصيل من عجلة الإنتاج، وأن تمكينهن هو تمكينٌ للمجتمع ككل.
بينما يرى بعض مفكري ومفكرات دراسات المرأة أن التركيز على دور الأمومة والرعاية قد يُستخدم كأداة لتكريس أدوار نمطية تفرض على المرأة أعباء العمل الاجتماعي المزدوج وغير الملموس، أرى أن هذا التأويل يحمل قصورًا في فهم عمق الدور الأمومي وأثره الحضاري.
الأمومة ليست مجرد دور نمطي يُفرض على المرأة، بل هي قوة إنسانية فريدة تسهم في بناء المجتمعات وتعزيز قيم التضامن والرحمة.
بدلًا من النظر إلى دور الأمومة كعبء، يجب أن نعيد تصورها كقيمة إنسانية عالية تُقدَّر وتُدعم، مع ضمان توزيع الأدوار الاجتماعية بشكل عادل بين الجميع، بحيث لا تتحمل المرأة وحدها مسؤوليات الرعاية، بل تشاركها الأسرة والمجتمع والدولة في هذه المهام. بهذه الطريقة، نكسر الصورة النمطية دون أن نفقد القيم الإنسانية العميقة التي تجعل من الأمومة ركيزة أساسية لتماسك المجتمع.
المرأة في ثقافتنا وموروثنا لا تُعتبر مجرد عنصر تابع لأدوار نمطية مفروضة عليها؛ بل هي جوهر محوري في بناء مجتمعات متماسكة وقوية، لأنها تمثل قيمة إقتصاد التكافل والعمل الجماعي الطوعي الذي يعزز التماسك المجتمعي وصموده وكرامته. إن الأمومة في هذا السياق لا تقتصر على تربية الأطفال فقط، بل تتعدى ذلك لتصبح جزءًا من منظومة ثقافية وقيمية تُؤمن بأن العناية بالمجتمع بأسره مسؤولية جماعية لمنعته وسداده.
يجب أن نتوقف عن قبول تقديم قيمنا كـ "صور نمطية"، فهذه القيم ليست مجرد اكسسوارات أو تجسيد لما يراه الآخرون، بل هي جوهر نظامنا الحي من القيم الذي تشكّل عبر عقود من التكافل والصمود في وجه التحديات. لقد كانت هذه القيم أساس تماسكنا الاجتماعي، ومع مرور الوقت بدأ تأثيرها يتلاشى تدريجيًا، مما أدى إلى بدايات شعورنا بالغربة في مجتمعاتنا ورؤية أحداث راهنة غريبة على نسيجنا القيمي. لذلك، من الضروري أن نُحافظ على هذه القيم كأساس راسخ في حياتنا اليومية وتكافل أفرادها في خدمة بعضهم البعض.
لحماية قيمنا من التآكل، علينا العودة إلى جذورنا، حيث العائلة كحصن يغرس المبادئ، والمدرسة والجامعة كمنصة تنقل الوعي بفن وإتقان، والأحزاب السياسية كمرآة تعكس هذه القيم في ممارساتها. بهذه الجهود المتكاملة، نصنع مجتمعًا يقاوم التحديات ويحولها إلى فرص وقيمًا حية تنبض في كل جانب من حياتنا.
إن التحديات التي نواجهها اليوم ليست مجرد اختبارات عابرة، بل محطات مصيرية تحدد مسار مستقبلنا. نحن أمام فرصة تاريخية لحماية نظامنا القيمي داخل أسرنا ومدارسنا ومؤسساتنا السياسية، كرؤية استباقية للأجيال القادمة. عندما نصنع حصونًا من القيم في بيوتنا، ونغرس الوعي في مدارسنا وجامعاتنا، ونعزز التماسك في مؤسساتنا، سنبني مجتمعًا يقف بكفاءة في وجه التحولات السطحية، محولين التحديات إلى فرص، والتهديدات إلى انتصارات، ونكتب فصلًا جديدًا في تاريخنا يليق بتراثنا وقوة إرادتنا.