الصمتُ الذي قتلتموه .. والضجيجُ الذي صنعتموه
أ. د. هاني الضمور
18-03-2025 11:42 AM
“وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (الذاريات: 21).
كان الصمتُ يومًا صديقَ الإنسان، وملاذَه حين تضيقُ به الحياة، وبابًا يفتحُ أمامه آفاقَ الفهمِ والحكمة. كان الليلُ يمتدُّ في هدوء، وكان الإنسانُ يجلسُ في تأملٍ تحت السماء، يُصغي لصوتِ الطبيعةِ، يُنصتُ إلى نبضِ قلبه، ويبحثُ في السكونِ عن إجابةٍ للأسئلةِ العميقةِ التي لا يُسمعُ صداها وسطَ الضوضاء. لكن في زمنٍ يتسابقُ فيه العالمُ على استهلاكِ كلِّ لحظةٍ بصوتٍ جديد، صار الصمتُ شيئًا يخشاهُ الإنسان، كأن الفراغَ مرعبٌ، وكأن السكونَ عدوٌّ يجب القضاءُ عليه بأيِّ وسيلةٍ ممكنة.
لم يكن الصمتُ يومًا غيابًا، بل كان ممرًّا إلى الحقيقة، وكان ساحةً يلتقي فيها العقلُ مع ذاته، وكان لحظةً يتجلّى فيها الإيمانُ لمن يبحثُ عنه. إبراهيمُ عليه السلام لم يُدركُ وحدانيةَ الله في زحامِ الأسواق، بل في صمتِ الليل، حين نظر إلى السماءِ وسألَ نفسه: “فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ” (الأنعام: 76). موسى عليه السلام لم يسمعَ نداءَ الله وسطَ ضجيجِ قومهِ، بل على جبلِ الطورِ في خلوةٍ مقدسةٍ بعيدًا عن الناسِ، حيث لم يكن هناكَ سوى الصمتِ المليءِ بالهيبة. ونبيُّ الإسلام محمدٌ ﷺ، قبل أن يُكلَّفَ بحملِ الرسالة، لم يكن يبحثُ عن الحقِّ بين الجموع، بل كان يختلي بنفسهِ في غارِ حراء، حيث لا شيء يقطعُ تأمله، ولا صوتَ يشوّشُ على يقينهِ حين جاءهُ الوحيُ لأولِ مرة.
“وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا” (النبأ: 9-11).
خلق اللهُ الليلَ ليكون سكنًا، راحةً للأجسادِ المنهكة، وصفاءً للعقولِ المثقلةِ بأعباءِ النهار، لكنكم أفسدتم هذه الفطرة. صار الليلُ امتدادًا للضجيجِ، ساعاتٌ لا تُطفأُ فيها الأضواء، ولا تسكنُ فيها العقول. تحيطونَ أنفسكمُ بالمزيدِ من الأصواتِ، بالموسيقى التي لا تنتهي، بالمحادثاتِ التي تُشغلكمُ عن أنفسكم، كأنكم تخافونَ أن تصمتوا للحظةٍ واحدة.
العلمُ يؤكدُ اليومَ أن الصمتَ ليس مجردَ راحة، بل هو ضرورةٌ حيويةٌ للدماغ. الباحثونَ في مجالِ علمِ الأعصابِ وجدوا أنَّ التعرضَ المستمرَ للضوضاءِ يرفعُ مستوياتِ هرمونِ الكورتيزول، المسؤولِ عن التوترِ والإجهادِ النفسي. دراسةٌ حديثةٌ نُشرت في مجلةِ “Brain Structure and Function” كشفت أنَّ فتراتِ الصمتِ المنتظمةِ تُساعدُ على نموِّ الخلايا العصبيةِ في الحُصينِ (Hippocampus)، وهي المنطقةُ المسؤولةُ عن الذاكرةِ والتعلم. كما أظهرت أبحاثٌ أخرى أنَّ الجلوسَ في هدوءٍ لعدةِ دقائقَ يوميًا يُخفّضُ ضغطَ الدمِ، ويقلّلُ من معدلِ ضرباتِ القلب، ويُعيدُ للجهازِ العصبيِّ توازنَه.
لكن ماذا فعلتم؟ استبدلتمُ الصمتَ بضجيجٍ لا ينتهي، حتى لم تعودوا تعرفونَ كيف تصغونَ إلى أنفسكم. ملأتم عقولكمُ بالمعلوماتِ المتلاحقة، بالأخبارِ العاجلة، بالإشعاراتِ التي تُنبهكمُ كلَّ لحظةٍ، كأنكم تخشونَ أن تُترَكوا وحدكم مع أفكاركم. أصبحتمُ تستهلكونَ المزيدَ من الصوتِ، كأنهُ يُعطيكمُ معنىً لحياتكم، بينما هو في الحقيقةِ يسرقُ منكم فرصةَ التأمل، يُفقدكمُ القدرةَ على التفكيرِ العميق، يجعلكمُ أسرى لما يُفرضُ عليكم من الخارج، بدلًا من أن تُنصتوا لما هو في داخلكم.
“لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ” (البلد: 4).
أنتم اليومَ أكثرُ تعبًا من أيِّ وقتٍ مضى، رغم أنكم تعيشونَ في عالمٍ يوفرُ لكم كلَّ وسائلِ الراحة. لكن كيفَ يرتاحُ إنسانٌ لا يعرفُ كيف يصمت؟ كيفَ يستعيدُ توازنهُ من لم يمنحْ عقلهُ فرصةَ السكون؟ كيفَ يفهمُ ذاتهُ من لم يجرّبِ الاستماعَ إلى صوتهِ الداخليِّ بعيدًا عن الضوضاء؟
“إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” (ق: 37).
الحقيقةُ أنكم لا تهربونَ من الصمتِ، بل تهربونَ من مواجهةِ أنفسكم. تهربونَ من الأسئلةِ التي تعرفونَ أنكمُ ستجدونها هناك، من لحظةِ التأملِ التي قد تفتحُ لكم أبوابًا لم تجرؤوا على طرقها. الضوضاءُ لم تمنحكمُ السعادة، بل صنعت لكمُ قلقًا لا ينتهي، جعلتكمُ أكثرَ توترًا، وأكثرَ استهلاكًا، وأقلَّ قدرةً على أن تجدوا السلامَ في داخلكم.
لكن، ماذا لو جربتمُ الصمتَ للحظة؟ ماذا لو أطفأتمُ الهواتف، وأغلقتمُ الشاشات، وتركتمُ فرصةً لأنفسكمُ لتكونوا في هدوءٍ تام؟ ستكتشفونَ حينها أنَّ الصمتَ لم يكن خاليًا، بل كان ممتلئًا بالحكمة، كان حياةً أخرى لم تنتبهوا لوجودها. ستشعرونَ أن الزمنَ يُبطئ، أن العالمَ يصبحُ أكثرَ وضوحًا، أن أفكاركمُ تجدُ المساحةَ التي تحتاجها لتستعيدَ صفاءها.
الصمتُ لم يكن يومًا علامةَ غياب، بل كان دائمًا حضورًا أعمق، كان لقاءً بينكم وبين حقيقتكم، وبينكم وبين الله. لم يكن الصمتُ ضعفًا، بل كان قوّةً لمن عرفَ كيف يستخدمهُ ليبحثَ عن نفسهِ بعيدًا عن كلِّ ما يُشوشُ عليه. لم يخلقِ اللهُ السكونَ عبثًا، بل جعلهُ لغةً لمن يُحسنُ الإصغاء، وجعل فيهِ سكينةً لمن يبحثُ عن السلامِ وسطَ عالمٍ يصرخُ طوالَ الوقت.
فهل ستعودونَ إلى الصمتِ قبلَ أن يُصبحَ رفاهيةً نادرة؟ أم ستواصلونَ الركضَ في هذا العالمِ الصاخبِ حتى لا يبقى فيكم ما يستحقُّ أن يُسمع؟.