صلاة بلا كلمات: حين يتحول الحب إلى عبادة
أ. د. هاني الضمور
11-04-2025 03:13 PM
في مشهد خلاب من رواية زوربا اليوناني، يقف الراوي في حوار عميق مع زوربا، ذاك الرجل البسيط العفوي، فيسأله: “لا أراك تصلي؟” فيجيبه بهدوء وصدق: “الذي يصلي لن تراه.” ثم يُكمل قوله: “أقف وكأن الله يسألني: ماذا فعلت منذ آخر صلاة صليتها لتصنع من لحمك روحًا؟ فأقول: يا رب، أحببت، ومسحت على رأس ضعيف، وابتسمت لعصفور، وحميت امرأة من الوحدة…”
كلمات تمضي أبعد من الأدب، وتتجاوز الرواية لتطرق أبواب الحقيقة الإيمانية: أن الصلاة ليست فقط طقسًا جسديًا، بل تجربة روحية شاملة، تبدأ من أعماق القلب وتنتهي بأثر في الحياة.
وهنا تتقاطع فلسفة زوربا مع جوهر ما جاء به الإسلام، لا سيما في القرآن الكريم والسنة النبوية، حين يتحدثان عن الصلاة كوسيلة لتزكية النفس، وإحياء القلب، وتهذيب السلوك.
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
“اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ” [العنكبوت: 45].
بهذا المعنى، فالصلاة ليست فقط حركة البدن، بل حيوية الروح، وليست نهاية في ذاتها، بل وسيلة لصناعة الإنسان الفاضل الذي يحب، ويُحسن، ويعطي دون مقابل.
زوربا، رغم أنه لا يدين بالإسلام، إلا أن منطقه الروحي ينبض بما يشبه الحديث النبوي الشريف:
“أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم…” [رواه الطبراني وصححه الألباني].
هنا نرى أن الإسلام ربط بين العبادة الحقيقية ونفع الناس، تمامًا كما فعل زوربا حين جعل من حمايته لامرأة من الوحدة، ومسحه على رأس ضعيف، وابتسامته لطائر، صلاةً خفية بينه وبين الله.
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان ليس مظاهرًا أو كلمات، بل سلوكٌ يعيش في الناس، فقال:
“الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” [متفق عليه].
هذا الحديث يضع أمامنا مفهومًا عميقًا: أن من الصلاة والإيمان ما لا يُرى بالعين، ولكنه يُحسّ في الأثر، ويُرى في الفعل.
عندما يقول زوربا: “أنا لا أطلب شيئًا من الله، هو أكرم من أن يُسأل طالما وجد حبًا أعطى”، يتجلى هنا جوهر التوكل، والإيمان بالمنح الإلهي القائم على اللطف لا الطلب، وهي فكرة يؤيدها قول النبي صلى الله عليه وسلم:
“من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته” [متفق عليه].
فالله، في رحمته، لا ينتظر دعاءنا بقدر ما يفرح برحمتنا ببعضنا، وما يقدمه الإنسان من خيرٍ هو في ذاته دعاء.
إن الصلاة في الإسلام هي عمود الدين، لكنها لا تنفصل عن الأخلاق. فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم قال:
“إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” [رواه البخاري في الأدب المفرد].
فكيف تُقبل صلاة لا تنعكس خُلقًا؟ وكيف يُحسب ركوع وسجود لا يمنع ظلمًا ولا يُلهم حبًا ولا يُنبت خيرًا؟
إننا أمام دعوة حقيقية لإعادة النظر في مفهوم الصلاة، لا باعتبارها مجرد فرض، بل كعلاقة يومية حية مع الله، تبدأ من المحراب وتمتد إلى الناس والكون. صلاة تتغذى بالحب، وتثمر سلامًا، وتُترجم في كل بسمة، وكل مساعدة، وكل لحظة تأمل في خلق الله.
زوربا، وإن لم يكن مسلمًا، فقد التقط بعفويته شيئًا من روح القرآن. فهل نلتقط نحن ما ضاع منا؟
هل نسأل أنفسنا – كما سأل زوربا نفسه – لا عن عدد ركعاتنا، بل:
“ماذا فعلنا منذ آخر صلاة صليناها لنصنع من لحمنا روحا؟.