مستقبل الدفاع الأوروبي: بين الأسطورة والواقع
د. مالك القصاص
12-04-2025 01:02 PM
في الآونة الأخيرة، كثر الحديث في أوروبا عن تشكيل جيش أوروبي موحد، وذلك بسبب التحولات الجذرية والمتغيرات الأمنية العالمية. هذه التغيرات دفعت صانعي القرار إلى إعادة النظر في السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي وتقييم دوره كلاعب مستقل في مجال الأمن الدولي.
في ذات السياق، تعد التهديدات الأمنية المتزايدة من اهم الأسباب في لإعادة التفكير في التسلح الأوروبي، حيث ان الصراع الروسي الاوكراني عزز مخاوف أوروبا من التهديدات العسكرية المباشرة، مما دفع الدول الأعضاء إلى التفكير في تعزيز دفاعاتها. كما ان تصاعد الهجمات الإلكترونية وتهديدات الجماعات الإرهابية زاد من الحاجة إلى تنسيق أمني أقوى في اوروبا.
بالإضافة الى ذلك، فان تدهور الشراكة الاستراتيجية التقليدية مع الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب جعل الاتحاد الأوروبي يبدا في التفكير في الاستقلال الاستراتيجي وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والناتو. وكذلك لتعميق التكامل الأوروبي في كل المجالات، بما في ذلك الدفاع والتعاون العسكري.
في ذات السياق، أطلق الاتحاد الأوروبي "الورقة البيضاء للدفاع الأوروبي – الجاهزية 2030"، والتي تهدف لتعزيز القدرات الدفاعية، لإعادة تسليح أوروبا وتعزيز صناعاتها الدفاعية. كما وتتضمن الاستراتيجية العديد من المحاور أهمها ضمان قدرة الصناعة الدفاعية الأوروبية على تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتسهيل الانتشار السريع للقوات والمعدات العسكرية داخل أوروبا، بالإضافة إلى سد الفجوات في القدرات الدفاعية وتعزيز الابتكار في التقنيات العسكرية، مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات الكم.
في ذات الشأن، وبحسب العديد من الخبراء والمحللين، فان هناك العديد من العقبات والتحديات تحول دون تحقيق هذا الجيش الموحد، ومن أهمها البطء في العمليات، حيث ان آليات اتخاذ القرار في الاتحاد الأوروبي تعتمد على الإجماع، مما يعني عدم الاستجابة السريعة وعدم التحرك الفوري في الأزمات.
وكذلك، حق النقض (الفيتو) الذي يمكن ان يعرقل القرارات، حيث يتمتع كل عضو في الاتحاد الأوروبي بحق النقض، مما يعني ان دولة واحدة يمكن ان توقف كل مبادرات الدفاع المشتركة. وبالإضافة الى ذلك، الترسانات غير الملائمة والتمويل والبنية التحتية العسكرية، وكذلك اعتماد الدفاعات الأوروبية بشكل كبير على الدعم الأمريكي من خلال الناتو.
تحاورت مؤخرا مع صديق لي جنرال في الشرطة الإيطالية، والذي عمل كخبير أمني في البعثات الدبلوماسية حول العالم، حول عمل جيش أوروبي موحد. أكد لي الجنرال انه هناك العديد من التحديات لعمل ذلك ومن أهمها، عدم وجود البنية التحتية والهيكل الاداري والخبرات اللازمة لعمل هذا الجيش، وكذلك صعوبة الاتفاق على إدارة الجيش خصوصا في ظل الخلافات السياسية بين أعضاء الاتحاد الأوروبي.
كما واكد لي انه يخشى من بدء تفكك الاتحاد الأوروبي حيث انه هناك عدم رضى عمن يقود الاتحاد الاوروبي من قبل المواطنين، وخصوصا إذا ما قام الاتحاد في المضي في التمويل والتسلح. كما واوضح لي ان أمريكا لن تخرج من الناتو وان كل ما يجري الان ما هي الا مناكفات سياسية لإعادة ترتيب الأوراق والملفات السياسية في العالم.
وفي الختام، رغم الطموحات الكبيرة، لا تزال فكرة إنشاء جيش أوروبي موحد وتفعيل استراتيجية دفاعية جديدة تواجه عقبات وتحديات سياسية ومالية، وعسكرية، ولوجستية، وتشغيلية، وغيرها. هذه العقبات تجعل من تحقيق الاستقلال الدفاعي الكامل أمرًا صعبًا في المستقبل القريب. ومع تصاعد التهديدات الأمنية، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام خيارين: إما المضي قدمًا في تعزيز قدراته الدفاعية بشكل فعلي، أو الاستمرار في الاعتماد على التحالفات التقليدية، وعلى رأسها حلف الناتو، لضمان أمنه. فهل تنجح أوروبا في الخروج من عباءة الناتو والاستغناء عن واشنطن؟