حين يرتفع العلم .. يسجد القلب وتنهض الروح
أ. د. هاني الضمور
17-04-2025 10:06 PM
هناك لحظة، لا تراها العيون، لكنها تُبصرها الأرواح. لحظةٌ ترتفع فيها راية الوطن… فيرتجف الجسد، وتشهق الروح، ويقف الزمن احترامًا لمشهد لا يُشبه شيئًا سوى المعجزة.
إنه عيد رفع العلم الأردني.
يومٌ لا يُقاس بالساعات، بل بكمية الرجفة التي تصيب القلوب حين ترى الأحمر والأسود والأبيض والأخضر يتعانقون في السماء، كما لو أن الأرض قررت أن تتحدث، فاختارت أن تتكلم بالألوان.
أيها الأردني،
حين ترى علمك يرتفع، لا تُدر ظهرك، لا تكتفِ بنظرة عابرة… بل قف. انظر إليه كما تنظر إلى أول وجه أحببته. استمع إلى الصمت من حولك… إنه ليس صمتًا، بل خشوع.
العلم لا يرتفع وحده… إنه يسحب معه قلوبنا، وذكرياتنا، وأسماء من رحلوا ليبقى هو.
كل خيطٍ في هذا العلم نسجته دمعة أم، وصرخة مقاتل، وعرق فلاح، وصبر معلم، ونبض أمين لم يبع وطنه ولو بجميع كنوز الأرض.
كل لون فيه، ليس رمزًا جامدًا، بل قصيدة حية تُتلى على جباه الأوفياء.
• الأسود هو الألم الذي لم يقتلنا.
• الأبيض هو الضمير الذي لم نخنه.
• الأخضر هو الأمل الذي لم يجف.
• والأحمر… هو الدم الذي سُفك ليبقى اسم “الأردن” مكتوبًا بالعزة لا بالدموع.
هل تتذكر أول مرة رأيت العلم مرفوعًا؟
ربما كنت طفلًا في طابور المدرسة، لا تفهم تمامًا لماذا يتوقف الجميع حين يُعزف السلام الوطني.
لكنك اليوم تفهم… وتبكي.
لأنك عرفت أن هذا العلم ليس قماشًا، بل كفن من لا قبر لهم، ونشيد من لا صوت لهم، وراية من حملوا أرواحهم على أكفهم وقالوا: “نموت… ليحيا الوطن”.
اليوم، تذكّر أن كل حبة تراب في هذا الوطن تعرف اسمك، وتنتظرك أن تُنقّيه، أن تحميه، أن تبذل من أجله، لا بالكلام، بل بالفعل.
فلا تخن هذا العلم حين تغشّ، أو تسرق، أو تبرر السكوت.
لا ترفعه على سيارتك إن كنت تكسر قوانين وطنك.
ولا تكتبه على صدرك إن كان قلبك قد نسي أن هذا الوطن يستحق أكثر من شعار.
في رواية “الأم” لمكسيم غوركي، لم تكن الثورة بندقية، بل كانت قلبًا ينبض بالصدق.
كانت أمًا لم تملك شيئًا سوى الحب، لكنه كان كافيًا ليُشعل شعبًا بأكمله.
ألم تفعل أمهات الأردن ذلك أيضًا؟
ألم يزغردن على أبواب الثكنات؟
ألم يسلمن أبناءهن للوطن وقلوبهن معلّقة في السماء؟
إن رفع العلم اليوم ليس مناسبة، بل عهد جديد.
عهدٌ تقطعه أمام الله والتاريخ، أنك ستكون جديرًا بهذا الوطن، أنك ستحمله على ظهرك، كما حملك حين تعثرت.
أنك لن تتركه إن أظلمت الأيام، بل ستكون نوره، وستدافع عنه بالكلمة، والعمل، والنزاهة، والنخوة، والحق.
فلنرفع العلم اليوم، كأننا نرفعه للمرة الأخيرة…
ارفعه بقلبك، لا بيدك.
ارفعه على نواياك، على أخلاقك، على اختياراتك.
ارفعه في ضميرك، قبل أن ترفعه في حفل.
لأن الوطن لا يُبنى بالأغاني فقط، بل بالدموع التي لا تُرى، وبالصبر الذي لا يُذكر، وبالناس الذين يؤمنون أن رايةً واحدة… تكفي لتُقيم أمة كاملة من الركام.
كل عام والأردن شامخ،
كل عام وعلمنا لا يُنكس،
كل عام ونحن أكثر وفاء، أكثر فخرًا، أكثر حبًا… لهذا التراب المقدس..