ذكر الله والمسؤولية الفردية: طريق النجاة في زمن الغفلة
أ. د. هاني الضمور
02-05-2025 07:00 PM
في عالم اليوم، حيث تتسارع وتيرة الحياة بشكل غير مسبوق، ويزداد انشغال الناس بالماديات وتضيع القيم في زحمة التكنولوجيا والانبهار بالمظاهر، يبرز سؤال عميق وجوهري: كيف نحافظ على وعينا بذواتنا ومسؤوليتنا تجاه خالقنا في ظل هذه الفوضى الروحية؟
الإجابة نجدها في مصدر لا يتغير مهما تغيرت الأزمنة والظروف: القرآن الكريم. ومن تأمل فيه، أدرك أن ذكر الله هو الركيزة الأساسية التي تعيد الإنسان إلى جادة الصواب، وتُذَكِّره بحقيقته ومصيره. فذكر الله هو الوقود الذي يحرك مشروع النجاة الفردية، المشروع الذي لا يمكن لأحد أن يتبناه عنك.
القرآن الكريم يكرر مراراً التأكيد على أن الإنسان مسؤول عن نفسه، وأن مصيره بيده، وأن الحساب يوم القيامة سيكون فردياً لا جماعياً، كما قال تعالى: “كل نفس بما كسبت رهينة”. ومن هذا المنطلق، فإن ذكر الله هو وسيلة الفرد الأولى لبناء وعي روحي يحميه من التورط في غفلة الجماعة أو التقليد الأعمى للمجتمع.
في هذا الزمن، كثيرون يبررون تقصيرهم الديني بفساد البيئة من حولهم، أو انشغالهم بتأمين لقمة العيش، أو بانشغالهم بالمنصات الاجتماعية والإعلامية التي تسلب الوقت والاهتمام. ولكن القرآن يعلمنا أن هذه الأعذار لن تنفع يوم الحساب، كما جاء في قوله تعالى: “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره”.
في عالم يموج بالقلق والاكتئاب والاضطراب النفسي، نجد أن ذكر الله ليس مجرد عبادة تقليدية، بل هو حاجة روحية وعقلية وسند للنفس في مواجهة التيارات المتلاطمة من الفتن والشهوات. في زمن باتت فيه الشهرة معياراً للنجاح وأصبحت الماديات أساس العلاقات، صار الإنسان أكثر عرضة لنسيان نفسه ومهمته، وهنا يأتي ذكر الله ليعيد التوازن إلى القلب والعقل.
الطمأنينة التي يمنحها ذكر الله لا تضاهيها أي وسيلة أخرى، فكما قال تعالى: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب”. ومن يذكر الله لا ينساه الله، بل يكون له عوناً وحفظاً كما في قوله: “فاذكروني أذكركم”. والذكر هو حاجز منيع أمام الانجراف في الفحشاء والمنكر في ظل انفتاح لا حدود له، كما قال: “إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر”.
تماماً كما أن الحساب فردي، فإن بناء العلاقة مع الله هو مشروع فردي أيضاً. لا يمكن لأحد أن يذكر الله عنك، ولا أن يصلي عنك، ولا أن يسعى لنفسك سواك. في زمن تهيمن فيه ثقافة “الترند”، يحتاج الإنسان إلى أن يتوقف ويتأمل: ماذا أعددت لنفسك؟ وأين أنت من الله وسط زحام الناس؟
ذكر الله هو ما يربط الإنسان بخالقه وسط هذا الزحام، وهو ما يذكره بأن النجاة مشروع شخصي لا علاقة له بتقصير الآخرين. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “سبق المفردون”، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: “الذاكرون الله كثيراً والذاكرات”. هؤلاء فهموا أن الطريق إلى الجنة يبدأ من داخل النفس لا من الخارج.
إذا وعى كل فرد أن نجاته مسؤولية لا يشاركه فيها أحد، سيؤدي ذلك إلى مجتمع أكثر وعياً وأخلاقاً، مجتمع لا ينتظر قدوة ليقتدي، ولا يلوم الظروف ليبرر، بل كل فرد فيه يرى أن ذكر الله والالتزام بأوامره هو واجبه قبل أن يكون واجب غيره.
اليوم، نحن بحاجة إلى عودة صادقة إلى الذكر، ليس فقط كألفاظ تُردد، بل كحالة دائمة من الحضور مع الله، تنعكس على السلوك والعمل، وتحفز الإنسان على إصلاح نفسه أولاً.
في عالم يغرق في النسيان، كن أنت الذاكر. في زمن تكثر فيه الأعذار، كن أنت المبادر. اذكر الله، لأنك أنت المسؤول عن نفسك. النجاة مشروعك الشخصي، فلا تؤجله حتى يأتي يوم لا ينفع فيه الندم.
“ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب”.