القرار فوق الأكاديمية: إلى أين تتجه الجامعات الرسمية؟
أ. د. هاني الضمور
05-05-2025 01:20 AM
في خضم الحديث عن تطوير التعليم العالي والارتقاء بجودة الجامعات، تتخذ بعض السياسات الرسمية مسارًا مغايرًا تمامًا، يوحي بأن المطلوب ليس تمكين الجامعة بل إخضاعها. في عالمٍ تُمنح فيه الجامعات استقلالًا لتقود النهضة، تتحول الجامعات الرسمية في بعض البلدان، ومنها الأردن، إلى مؤسسات محاصرة تُدار كما تُدار المرافق الخدمية، لا الكيانات المعرفية.
ليس الأمر تخمينًا أو تهويلًا، بل واقعٌ تثبته قرارات رسمية صادرة، آخرها الوثيقة المؤرخة في التاسع من نيسان 2025، التي وُجهت إلى رؤساء الجامعات الرسمية، وتضمنت تعليمات تحمل طابعًا إداريًا لكنه يخفي تحولًا في فلسفة العلاقة بين الدولة ومؤسساتها الأكاديمية. في ظاهرها، تسعى هذه التعليمات إلى ضبط النفقات، لكنها في جوهرها تُقيد يد الجامعة، وتُفرغها من صلاحياتها، وتمنعها من التحرك خارج هوامش مرسومة بعناية من خارج الحرم الجامعي.
القرار يبدأ بإعادة تفعيل تعليمات تعاقدية تُقصي العاملين على المشاريع من حقوقهم الأساسية كالإجازات والعلاوات ومكافأة نهاية الخدمة. ما المعنى الذي يُمكن أن نستخلصه من ذلك سوى أن الجامعة أصبحت بيئة طاردة، لا تحتفي بالكوادر بل تتعامل معهم وفق منطق الاستخدام المؤقت؟ لا أمان وظيفي، ولا دافع للانتماء، ولا شعور بالاستقرار. بيئة كهذه لا تُنتج معرفة، بل تُراكِم الإحباط.
وفي خطوة تفتقر إلى العدالة، يُمنع صرف مكافآت نهاية الخدمة حتى في الحالات التي تُموَّل من اشتراكات الموظفين في التأمين أو الضمان التمويلي، باستثناء جامعتين فقط. السؤال هنا لا يتعلق فقط بالتمييز المؤسسي، بل بالمنطق الذي يحكم القرار. إذا كانت المكافأة تُستوفى من أموال الموظفين، فبأي حق تُمنع؟ أليس هذا تدخلًا في استحقاق شخصي بغطاء مؤسسي؟.
أما الإيرادات الذاتية، وهي شريان الحياة الوحيد في ظل تراجع التمويل الحكومي، فقد وُضعت لها سقوف صارمة. لم تعد الجامعة حرة في التصرف بنصف ما تُحصله من برامجها الموازية أو صندوق التعليم الذاتي. هل نسي صانعو القرار أن هذه الإيرادات هي نتاج اجتهاد أكاديمي وإداري، وُجِدت لسد عجز متراكم بسبب انسحاب الدولة من دورها التمويلي؟ كيف يُطلب من الجامعة أن تُبدع وهي ممنوعة من استخدام ثمار اجتهادها؟.
ثم يأتي القرار الذي يمسّ جوهر الأداء الأكاديمي: إلغاء مكافآت التفرغ لأغراض التدريس أو الإدارة. كيف تُحفَّز الكفاءات إذا أُلغيت مكافآتها؟ وهل يُطلب من الأستاذ الجامعي أن يُفرغ نفسه للعلم والتدريس والإدارة دون مقابل؟ في أي منطق إداري أو أكاديمي يُعتبر التفرغ ترفًا لا ضرورة؟.
وتُستكمل سلسلة القيود بربط الدعم الحكومي السنوي بما تقوم به الجامعات من “إجراءات تصحيحية”، لا بناءً على ما تحققه من مخرجات علمية أو أثر مجتمعي. بهذا المنطق، تُكافأ الجامعات التي تُقلّص نفقاتها حتى لو على حساب الجودة، وتُعاقب تلك التي ترفض أن تُدار بالأرقام وحدها. يتحول الدعم إلى أداة ضبط، لا وسيلة تمكين، وتُصبح المؤسسة الأكاديمية كيانًا تابعًا لقرارات رقابية لا لرؤية علمية.
هذا المشهد لا ينفصل عن توجه أوسع: تحويل الجامعة إلى جهاز بيروقراطي، لا مؤسسة فكرية. تتقلص الحريات، تُصادر الصلاحيات، وتُعاد هندسة العلاقة بين الدولة والجامعة على قاعدة الطاعة لا الشراكة. وهنا يكمن الخطر الأكبر. فالجامعة التي لا تقرر، لا تُبدع. والتي تُخضع، لا تُنتج. والتي تُربَك بموازناتها، تُفرَغ من رسالتها.
قد يُقال إن هذه الإجراءات مؤقتة، أو أنها ضرورية لمعالجة اختلالات مالية. لكن التجارب تؤكد أن ما يُفرض مؤقتًا يتحول إلى دائم، وأن ما يبدأ بذريعة الإصلاح ينتهي أحيانًا كأداة للتجويف المؤسسي. فهل يُعقل أن نُطالب الجامعات بأن تُنافس عالميًا، بينما نُقيد قراراتها، ونُحاصر أساتذتها، ونُجهِض استقلالها؟ وهل يمكن أن تزدهر المعرفة في بيئة تُدار من فوق، ويُنظر فيها إلى العقل باعتباره بندًا قابلًا للحذف؟.
الجامعة ليست مبنى، ولا ميزانية، ولا هيكلًا تنظيميًا. الجامعة مشروع وطني، وأفق ثقافي، ومصدر قوة ناعمة للدولة. وأي سياسة تُقزّمها، أو تُحوّلها إلى مرفق خاضع، لا تصيب الجامعة وحدها، بل تُصيب المجتمع كله في عمقه.
لقد آن الأوان لمراجعة جذرية لطريقة التعامل مع الجامعات. آن الأوان لأن تُعاد للجامعة كرامتها، واستقلالها، ودورها في تشكيل وعي الأمة. فالمعركة ليست على الرواتب، بل على العقل. وليست على المكافآت، بل على الهوية. وإذا لم نعد للمؤسسة الأكاديمية ما تستحقه من حرية وثقة وتمكين، فإن السؤال لن يبقى: أين تتجه الجامعة؟ بل سيتحوّل إلى: هل تبقّى ما يمكن إنقاذه منها أصلًا؟..