دور الكفايات في تطوير أداء الأفراد والمؤسسات
د.عبدالله القضاة
10-05-2025 04:54 PM
ذكرت في المقال السابق أن الكفايات تتنوع؛ لتشمل الكفايات الأساسية Competencies Core تميز ثقافة وهوية المؤسسة وتشترك فيها جميع الوظائف، وكفايات وظيفية Competencies Functional ترتبط بوظيفة أو مهنة معينة مثل التسويق أو المحاسبة، واخرى قيادية Leadership Competencies تركز على مهارات القيادة والإدارة مثل التأثير، واتخاذ القرار، والتفكير الاستراتيجي.
وفي هذا المقال سوف نجيب على التساؤل التالي: كيف تُساهم الكفايات في تطوير أداء الأفراد والمؤسسات في القطاع العام؟، فعلى مستوى تطوير أداء الأفراد تسهم الكفايات من خلال التحديد الواضح للتوقعات، فتوضح للموظف المهارات والمعارف والسلوكيات المطلوبة منه؛ الأمر الذي يقلل الغموض ويزيد التركيز على الأداء الفعّال، كما تسهم في التوجيه والتطوير الشخصي؛ فهي تستخدم كخريطة لتحديد نقاط القوة والضعف لكل موظف ليتم بناء خطط تطوير فردية مبنية على فجوات الكفايات.
كما تسهم الكفايات في تحسين مستوى الأداء الوظيفي؛ كون الموظف الذي يعرف نوع ومستوى الكفايات المطلوبة يعمل بكفاءة أعلى ويصبح أكثر التزامًا بتحقيق الأهداف الوظيفية والمؤسسية. وفي مجال التحفيز والمسار المهني، توفر الكفايات للموظفين مسارًا مهنيًا واضحًا للنمو والترقي و هذا يعزز الدافعية ويخفض معدلات الاستقالة.
والذي يجدر ذكره في هذا الجانب، أن معظم أخصائي التدريب في المؤسسات لايتقنون عملية تصنيف وتقييم الكفايات عندما يشرعون في بناء خطط تطوير الأداء الوظيفي ، فقد يكون الموظف لديه كفاية عالية في المعرفة وضعف في المهارة ، فقد يتم بناء برنامجي معرفي، وبالتالي يفشل هذا البرنامج في تحقيق النتيجة المطلوبة، وربما يمتلك الموظف مستوى عال من المهارة مقابل مستوى متدني من السلوك أو المعرفة؛ وبهذه الحالة لن يكون هناك أثرا لبرامج التطوير التي تهدف الى تعزيز او رفع مستوى المهارة، وعملية التصنيف والتقييم هذه من الضروري أن يتم تدريب أخصائي الموارد البشرية؛ والتدريب على وجه الخصوص عليها، وضرورة توظيف التكنولوجيا وربما الذكاء الإصطناعي في عملية التقييم ؛ كونها تشكل حجر الأساس في كافة عمليات وأنشطة التطوير والموارد البشرية الحديثة.
أما عن دور الكفايات في تطوير أداء المؤسسات الحكومية، فيظهر ذلك جليا في رفع كفاءة الخدمات الحكومية، فالمؤسسات التي تملك موظفين يمتلكون الكفايات المناسبة تقدم خدمات أسرع، أدق، وأكثر تلبية لاحتياجات المجتمع، وهذا بالطبع يحقق التميز المؤسسي من خلال ربط الكفايات بأهداف التميز (مثل الابتكار، رضا متلقي الخدمة، الكفاءة التشغيلية) ويجعل المؤسسة قادرة على المنافسة والتحسين المستمر.
ولا شك أن المؤسسات التي تعتمد الكفايات الملائمة ؛ تنجح في تبني التخطيط الإستراتيجي لمواردها البشرية، فالكفايات تساعد في التوظيف الدقيق، التخطيط للقيادات المستقبلية، وإدارة الأداء بطريقة مبنية على معايير واضحة، وهذا بالطبع يسهم في تعزيز ثقافة التعلم المستمر ؛ فعندما تصبح الكفايات جزءاً من ثقافة العمل؛ تتحول المؤسسات إلى بيئات تتعلم وتبتكر باستمرار.
ولا ننسى الدور الأهم للكفايات في الوقت الحاضر في دعم التحول الرقمي والإداري؛ فعبر تطوير كفايات متعلقة بالتحول الرقمي (مثل تحليل البيانات، الابتكار الرقمي)، تصبح المؤسسات قادرة على مواكبة التغيرات السريعة.
من قصص النجاح في إستخدام الكفايات بطريقة متقدمة جدا في تطوير الأداء الفردي والمؤسسي ؛ النموذج التطبيقي لحكومة سنغافورة ، باعتبارها واحدة من أكثر الحكومات كفاءة في العالم، حيث أرادت ضمان أن كل موظف حكومي مستعد لمواجهة تحديات المستقبل الرقمي والتحولات الاقتصادية السريعة، فلجأت لخطوات منهجية يمكن عرضها باختصار.
قامت الحكومة إبتداءا بتصميم إطار كفايات حكومي شامل Civil Service Competency) Framework ( حددت بموجبه ثلاث مجموعات رئيسية من الكفايات:
- كفايات المستقبل (Future-Ready Skills): مثل التفكير التحليلي، الذكاء العاطفي، الابتكار.
- الكفايات الفنية (Technical Skills): مثل الأمن السيبراني، تحليل البيانات، الحوكمة الرقمية.
- الكفايات القيادية (Leadership Competencies): مثل قيادة التغيير، إدارة الأزمات.
في الأردن مثلا، تم قبل أكثر من سنتين إطلاق دليل كفايات الوظائف القيادية في الخدمة المدنية لمستوياتها الثلاثة، وهي الوظائف الإشرافية بمستوى رئيس قسم، ووظائف الإدارة الوسطى بمستوى مدير مديرية، والإدارة العليا بمستوى أمين أو مدير عام دائرة أو من في حكمه، وغيرها من الوظائف، وحاليا هناك حاجة ماسة لمراجعته وتطويره بالإستفادة من المتغيرات الحديثة والتجارب العالمية الناجحة بهذا الخصوص.
الخطوة الثانية من النموذج السنغافوري تتمثل في إطلاق بوابة إلكترونية ذكية للتقييم الذاتي؛ كل موظف حكومي يستطيع تقييم نفسه إلكترونيًا و يحصل على تقرير فوري يبين أين يقف مقابل الكفايات المطلوبة لموقعه الحالي وموقعه المستقبلي، وهذا ما نأمل أن تحققه خارطة تحديث القطاع العام من خلال الوحدة الخاصة بمتابعة هذه الخارطة وهيئة الخدمة والإدارة العامة، وقد تتم من خلال مركز الكفايات الجديد.
أما الخطوة الثالثة من النموذج السنغافوري فكانت إنشاء أكاديمية حكومية متخصصة في التدريب ، تقدم برامج مهنية مبنية 100٪ على فجوات الكفايات، ليتم ربط التعليم بالاحتياجات الفعلية للتحول الإداري والتكنولوجي.
في الأردن، نمتلك معهد الإدارة العامة؛ وهو معلم وطني متميز، يحتاج للمزيد من الدعم المالي والتقني والبشري، خاصة أخصائي تحديد الإحتياجات وتصميم البرامج وتقييمها، حيث أن الأعداد الحالية غير كافية؛ وأعتقد أنه سينجح في تقديم البرامج المهنية وربط التدريب بالاحتياجات الفعلية للتحول الإداري والتكنولوجي
الخطوة قبل الآخيرة في النموذج السنغافوري تم تبني التخطيط الوظيفي المستقبلي (، من خلال بناء مسارات وظيفية ذكية مرتبطة بالكفايات، فإذا طوّر موظف نفسه في مجموعة كفايات معينة، يصبح مؤهلاً للانتقال إلى مناصب أعلى أو تخصصات جديدة، على سبيل المثال: موظف في قسم العلاقات العامة، بعد تطوير كفايات الابتكار الرقمي، يمكنه الانتقال إلى منصب قيادة مبادرات الابتكار الحكومي.
استخدام الذكاء الاصطناعي لدعم التطوير، كانت الخطوة الآخيرة في النموذج، حيث تم دمج أدوات ذكاء اصطناعي لتوصية كل موظف بدورات تدريبية أو تحديات مهنية تناسب نقاط ضعفه وقوته في الكفايات، وهذا نأمل تطبيقه في الأردن، وأعتقد الإمكانيات البشرية متوفرة ، ونحتاج أن نجعل منه أولوية في عملية التحديث المنشود.
خلاصة القول : الكفايات بوصلة توجه الأفراد وأداة تقود المؤسسات نحو التطور والتميز، ومطلوب من الأردن الاستثمار الاستراتيجي في الكفايات، ليس من أجل أن نواكب المستقبل فقط، بل حتى نصنعه.
* أمين عام وزارة تطوير القطاع العام/ مدير عام معهد الإدارة العامة سابقا
abdqudah@gmail.com