المقارنة بين المنهج العلمي والتجربة الإنسانية
لانا ارناؤوط
12-05-2025 11:17 AM
في عالم البحث والدراسة، تُعدّ المقارنة أداة جوهرية لفهم الظواهر، تحليل المتغيرات، واستنتاج الفروقات والتشابهات التي تقود إلى بناء نظريات أو تفكيك فرضيات. إنها منهج علمي قائم على الملاحظة والقياس، لا يعتمد على الانفعال، بل على الدقة والتجريد. لكنها، في الوقت ذاته، حين تنتقل إلى ساحة العلاقات الإنسانية، قد تتحول من وسيلة لفهم العالم إلى أداة تؤلم النفس وتعيق التقدّم.
في العلوم الاجتماعية والطبيعية، تُستخدم المقارنة لاشتقاق الفروق بين مجتمعين، أو تحليل نتائج تجربتين، أو حتى تقييم أثر متغير معين. فالمقارنة بين نظامين تعليميين، أو بين فترتين تاريخيتين، تتيح للباحث فهمًا أعمق للعوامل المؤثرة، وتمنحه أدوات لفهم العلاقات السببية. إنها تمنح الدراسة بُعدًا تحليليًا، وتساعد على تعميم النتائج أو نقدها. المقارنة هنا ليست مجرد رصد للاختلاف، بل بناء معرفي متكامل يفضي إلى تطوير أو تغيير.
لكن هذه القيمة المعرفية للمقارنة لا تتحقق إلا ضمن شروط واضحة. أولها، أن تكون العناصر التي تُقارن متكافئة في السياق، وأن يتم فهمها ضمن بيئتها ومحدداتها الخاصة. فالمقارنة بين دولتين دون مراعاة للخصوصيات التاريخية والسياسية والاقتصادية، مثل مقارنة نتائج التعليم بين بلد مزدهر وآخر يعاني من أزمات مزمنة، ليست إلا مجازفة معرفية تؤدي إلى استنتاجات مغلوطة. والمقارنة هنا تصبح أداة تضليل لا تفكير. لذلك، يتطلب استخدام المقارنة في البحث العلمي حسًا نقديًا عاليًا وقدرة على القراءة المتعمقة في السياقات لا الأرقام فقط.
أما حين تنتقل المقارنة إلى الحيّز الإنساني، وإلى علاقاتنا اليومية، تصبح مسألة أكثر حساسية وتعقيدًا. فحين يبدأ الإنسان في مقارنة نفسه بالآخرين، بإنجازاتهم، بمظاهرهم، بطريقة عيشهم، فإنه يفتح على نفسه بابًا من القلق والخذلان. المقارنة في العلاقات الاجتماعية قد تقود إلى شعور بالنقص أو إلى بناء أحكام سطحية على تجارب لا نعرف تفاصيلها. نقارن في اللاوعي بين أبنائنا وأبناء الآخرين، بين زواجنا وزيجات غيرنا، بين مسيرتنا ومسيرة من حولنا، دون أن ننتبه أن كل تجربة إنسانية تحوي من الظروف والعوامل ما يجعلها فريدة وغير قابلة للنسخ أو التكرار.
المقارنة، في هذا السياق، قد تسرق من الإنسان تقديره لذاته، وقدرته على الاستمتاع بما يملك. فهي تشوّه العدسة التي يرى بها حياته، وتدفعه للركض وراء صورة لا يعرف مصدرها، ولا يدرك حقيقتها. إنها تقود إلى طريق صعب، تتراجع فيه الأصالة لحساب التقليد، ويُستبدل السعي الشخصي بمنطق التنافس غير المعلن.
ولذلك، فإن الذكاء في استخدام المقارنة لا يكمن فقط في قدرتنا على تطبيقها، بل في وعينا بمكانها الحقيقي. في المختبرات والأبحاث، تُعدّ المقارنة مفتاحًا للمعرفة، بينما في العلاقات الإنسانية، تستدعي حذرًا ومراجعة ذاتية. فأن نُجيد التفريق بين "مقارنة الباحث" و"مقارنة الشخص"، هو خطوة أولى نحو بناء عقل متزن، ونفسٍ سليمة.