جذور صراع الدولة و حماس على "الاخوان"( ٢٠١٣ - ٢٠٢٥).
في شهر آذار من العام ٢٠١٣ خرجت تصريحات من العيار الثقيل عن الملك عبد الله الثاني في صحيفة ذي اتلنتك الأمريكية يصف فيها الإخوان بأنهم " ذئاب في ثياب حملان"؛ وذلك بعد ان غيرت الجماعة من لهجتها السياسية آنذاك ومررت في المظاهرات شعارات ذات سقوف عالية تنقصها اللياقة السياسية و الاخلاقية من نوع " المحافل الماسونية تحت الرعاية الملكية " "حرية من الله غصب عنك عبدالله" وهي الشعارات التي عبّرت عن حالة من الاستقواء والانتفاخ السياسي للجماعة بتأثير وصول الإخوان في مصر إلى سدة الحكم.
مما لا شك فيه أنّ سقوط الجماعة في مصر عكس ارتياحاً رسمياً أُردنياً؛ بيدَ أن الجماعة في الأردن تعجلت المواجهة مع الدولة بتصريح غير حصيف لزكي بني ارشيد يقول فيه "أنّ الأردن أحد أدوات التآمر على الشرعية في مصر" وهو ما اعتبرته الدولة تحرشاً سياسياً لإختبار قدراتها وإتجاهاتها ؛ والحقيقة أنّ الدولة الأردنية لم تنساق إلى ردات الفعل العربية بعد سقوط مرسي وأتسم تعاملها مع الجماعة بالهدوء؛ هذا في الوقت الذي أتخذ النظام المصري إجراءات قاسية بحق الجماعة انتهت إلى حظرها ووصمها بالإرهاب وحذت دول خليجية حذو النظام المصري.
بعد سقوط مرسي عَمِدت الجماعة إلى الهبوط اضطرارياً على مدارج المعارضة الخالية من الدسم الحراكي في الشارع وعاشت حالة من الكمون السياسي في ترقب لعودة المرسي المنتظر وتغيُر ميزان القوى في الإقليم لصالح المحور التركي الذي سقطت ثمار مشروعه في مصر وحُرقت بيادره في سوريا في ذلك الزمان.
في الواقع لا تصلح سنوات الربيع العربي فقط كإطار ملائم لصورة الأزمة آنذاك التي اشتعلت بين الجماعة( ومن خلفها حماس الخارج) والدوله الاردنية فثمة أبعاد أُخرى للصورة، ما لم يكن هامشاً على متن رواية الأزمة؛ تلك الرسائل السياسية والأمنية التي حفل بها مهرجان غزة في آب ٢٠١٤ وهذه الرسائل هي ؛ الضغط على العصب الحساس للدولة عبر الحشد الجماهيري الذي يعكس حضور الجماعة و محاولة احتكار حماس الخارج لمكون اجتماعي بعينه؛ العروض ذات الطابع العسكري التي اعتبرتها الدولة عسكرة رمزية لفكر التنظيم، و التصريحات شديدة اللهجة من قيادي مقرب من حماس الخارج (محمد سعيد بكر ) التي قال فيها" أمام نظام الحكم في الأردن فرصة لإثبات الرجولة والديانة والشرف......." وقد نُقل عن أحد مسؤولي الدولة قوله" أنّ الجماعة قد اثقلت العيار كثيراً في المهرجان" ؛ ومنذ ذلك التاريخ استنفرت الدولة قدراتها وقراراتها لتأديب التنظيم بعدما التقط النظام السياسي من تلك الرسائل استضعاف الجماعة للدولة...( ما أشبه اليوم بالأمس)!!
لم تكن الأزمة في الخارج بين الجماعة والدولة لتفعل فعلها لولا التوفر في الداخل على بيئة مؤاتية و فُقدان المناعة التنظيمية ووجود خلافات بينية عميقة استطاعت الدولة أنّ تتسرب من شقوقها للوصول إلى أهدافها؛ كما أنّ هذه الخلافات الداخلية لم تكن وليدة اللحظة بل هي خلافات قديمة حان موعد استحقاقها بعد أنْ تأخرت تسويتها منذ تدحرجها على خلفية إخراج قيادات حماس الخارج من الاردن.
قابل المكتب التنفيذي للجماعة آنذاك دعوة إعادة ترخيص الجماعة باستعلاء على الواقع وتعاملت القيادة باستخفاف مع مطالب مؤتمرات إصلاح الجماعة كما تتعامل الشركات التجارية مع صناديق الإقتراحات والشكاوي ؛ وقال قائلهم أين مؤتمرهم الثالث!!.
إقصاء تيار الاعتدال داخل الجماعة معطوفاً على ذلك رسائل الجماعة السياسية في مهرجان غزة أعلن عن بداية المحاولة الأخيرة للدولة لتحرير الجماعة من هيمنة حركة حماس الخارج والعودة إلى المعادلة التاريخية التي حكمت الجانبين؛ وهكذا بدأت مرحلة إعادة إنتاج الجماعة والذي لم يكن ثمرة ضغوط خارجية كما يتوهم البعض فخلال أكثر من عام ونيف على" الانقلاب" في مصر ورغم أنّ الدولة توفر لها أجواء إقليمية مؤاتية لانهاء الجماعة منذ ذلك الوقت إلاّ أنّها في الواقع لم تضرب حتى حصاراً صارماً على التنظيم؛ لا بل أنّ الجماعة في تلك السنوات قد حققت انتصارات هامة في انتخابات نقابة المهندسين والمعلمين والجامعة الاردنية؛ كما أنّ التصريحات التي صدرت عن الجماعة حتى ذلك المفصل التاريخي الذي أشرنا إليه أعلاه تؤكد على لسان الرجل الثاني في الجماعة انذاك زكي بني ارشيد بأنّ" الجماعة غير مستهدفة".
قامت الدولة بتقديم "الجماعة" بشيك على بياض لقيادات الترخيص؛ ذلكَ أنّ الدولة سعت إلى إعادة تعريف الجماعة ودورها وأولوياتها وتعديل سلوكها بما يتكيف مع المتطلبات الوطنية والظروف الإقليمية؛ صحيح أنّ الحكومة لاذت بالصمت في ظل الشقاق الداخلي ولكنها استطاعت أنْ تضع طبخة سياسة تكييف الجماعة على نار التباينات الداخلية.
في شهر شباط ٢٠١٦ أجرت الجماعة تعديلاً على النظام الأساسي يتضمن فك الارتباط بالجماعة المصرية الأم ؛ كانت تعديلات الجماعة استجابة متأخرة لم تُواكب سير الأحداث وأتت في الوقت الضائع و بعد خراب" البصرة" واستفحال الأزمة.
أغلقت الدولة في ( ١٣-٤-٢٠١٦) المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين(غير المرخصة) وعدداً من مقرات الجماعة في المحافظات في تطور درامتيكي لسير الاحداث؛ لقد أرادت الدولة أنْ تُبرهن عن جديتها في تصحيح المسار القانوني للجماعة وبررت قرار الإغلاق بانتحال الجماعة القديمة للشخصية الاعتبارية للجماعة الجديدة.
وأدلى مراقب عام الجماعة آنذاك( همام سعيد) خطاباً للتعليق على هذا المنعطف التاريخي في الأحداث أدان فيه إغلاق مقرات الجماعة بعبارات مأزومة و جُمل مهزوزة ربطت بين ما يحدث في الأردن بما حدث للحركة الإسلامية في "إسرائيل"؛ كان خطابا ً يفتقد للكياسة واللياقة السياسية فقد أذاب الفروق الموضوعية بين الدولة الأردنية ودولة الاحتلال ولكنه من جانب آخر أشار بوضوح إلى تماهي الجماعة و تبعيتها لمشروع حركة حماس الخارج، ليعيدنا الخطاب إلى اشكاليات الجماعة في الأردن وإلى خلفيات النزاع داخلها حول الهوية والأولوية.
كان مقتل قيادة الجماعة في كل مراحل ازماتها مع الدولة؛ أنّها عاجزة -حتى اللحظة الراهنة ايضاً - عن قراءة الأحداث السياسية؛ فقد كانت ولا زالت الجماعة أسيرة لمعادلة لم تعد قائمة في المملكة الأردنية الرابعة ؛ فقيادة الجماعة تعاملت مع الحاضر بأدوات الماضي مُستندة إلى وهم شرعية الجماعة المُقترنة بحقيقة شرعية الدولة و حاجة النظام السياسي لها وهو ما عبّر عنه القيادي مراد العضايلة متوهماً في تلك الحقبة بقوله: "الدولة الأردنية بمجمل مؤسساتها (حتى الامنية..) تُدرك أهمية استمرار العلاقة مع الإخوان" !!!
شاركت جبهة العمل الاسلامي بالاستحقاقات النيابية المتتالية منذ ٢٠١٦ حتى ٢٠٢٤ ؛ وجاء قرار المشاركة في محاولة أخيرة للجماعة غير المرخصة لإثبات وجودها ولتنقذ نفسها من الغرق بعد أنْ فاتها قارب الأحداث؛ ورغم أنّ القرار جاء استجابة للضغوط السياسية وانقلاباً على مطالب الإصلاح الجذرية في فترة الربيع العربي واعترافاً عملياً بغياب الجماعة في مقابل حضورالحزب إلاّ أنّ قيادة الجماعة غير المرخصة لم تكن تملك رفاهية الاختيار فالجماعة الجديدة المرخصة والاحزاب الإسلامية الناشئة جاهزة لملء الفراغ ، بيدَ انه لسحب البساط من تحت اقدام هذه التشكيلات الاسلامية الجديدة(ذات الشعارات المحلية)؛ دأب حزب جبهة العمل الاسلامي على طرح الشعارات الاصلاحية الوطنية الطارئة في مواسم الانتخابات المتتالية والتي لم تكن جزءً من مشروع الجماعة والحزب السياسي على مدار تاريخها.
كانت الحرب الاخيرة في غزة ٢٠٢٣ آخر فصول صراع الدولة و حماس الخارج على الجماعة و آخر فرص الجماعة ايضاً للتحرر من هيمنة مشروع حماس العابر للمحاور الاقليمية في المنطقة؛ لقد شكّل تصعيد حماس الخارج و أذرعها الاعلامية -في بلدان المهجر- لحملتهم على مؤسسات الدولة الاردنية عبر استخدام ورقة " اخوان الاردن" مقامرةً غير محسوبة العواقب ودون اي اكتراث لتأثير ذلك على حضور و مصالح الجماعة و الحزب المستقرة في الاردن، والواضح ان حماس الخارج فقدت اتزانها السياسي بعد أن ارتطمت في الحائط الاسرئيلي كنتيجة لمغامرة حماس الداخل في غزة، وهكذا تجاوزت حماس الخارج و ملحقاتها بالجماعة كل الخطوط الحمراء ووقعت في المحظور في قضية تصنيع و توطين السلاح في الاردن؛ تبعاً لذلك دفعت الجماعة ثمن هيمنة حماس الخارج على قرارها لثلاثة عقود مضت ليتم حظرها بموجب القوانين الاردنية في (٢٣-٤-٢٠٢٥) اي بعد ثمانين عاماً من وجودها الشرعي في حضن الدولة الأردنية.
لقد تعاملت حماس الخارج وملحقاتها في الجماعة مع الأردن تاريخياً كساحة لا دولة، واعتبرته بمثابة حديقة خلفية لمشروعها، وعند إبعاد قيادة حماس من الأردن وجه إبراهيم غوشة حديثه إلى أعضاء المكتب السياسي للحركة" يجب أن نعود إلى الأردن، الساحة الأردنية من أهمّ الساحات ولا يجوز التخلي عنها"؛ فقيادة المكتب السياسي نظرت للاردن كأرض للحشد والرباط مستندةً إلى أحاديث نبوية ضعيفة وغير صحيحة من نوع "أنتم شرقي النهر وهم غربيه "!! وبالاستناد إلى دعوات الأخوّة والتلاحم بين الشعبين ، اختلطت مفاهيم الوحدة بالتوطين وخيمة التحرير بالوطن البديل لتزيد هذه الدعوات من هواجس الأردنيين على الوطن و الدولة.
استطاع المكتب السياسي لحماس الخارج في العقود الثلاثة الماضية أن يُجيّر طاقات الإخوان في الأردن لمشروعه، واستفاد من حالة الانفتاح السياسي والحضور الشعبي للجماعة منذ مطلع التسعينات لتثبيت أقدامه في المجتمع الأردني، واتخذ من جماعة الإخوان مطيّة باستنزافه للبنى التحتية للجماعة من مؤسسات وكوادر وشبكة علاقات ليحكم قبضته على قيادة وتوجيه الجماعة من خلال التيار المرتبط تنظيمياً وبرامجياً به ؛ وهذا الأمر فيه إشكال كبير و قد كان محكوماً عليه بالحتمية التاريخية بالفشل و هو ما حدث في نهاية القصة!!
لم يكن بالامكان لبرنامج المكتب السياسي (حماس الخارج) ، أن يصبح بديلا عن برنامج اخوان الأردن إلا إذا أصبحت( ربما) حماس حركة إسلاميّة صرفة ، وليست حركة إسلامية قُطرية.
الحركة التي تنعت نفسها بأنّها حركة إسلاميّة فلسطينيّة بامتياز ، وترى بفصائل منظمة التحرير أقرب المقربين لها كما في ميثاقها ، كان لا يمكن أن تشكل بديلاً لإخوان الأردن ؛ لأنها بهذا التصنيف لنفسها فقدت اتزانها كونها لا تقف على مسافة واحدة من كل أعضاء و أنصار الجماعة من كل المكونات.
لقد عملت قيادة حماس الخارج و ملحقاتها داخل الجماعة بكل ما أوتوا من قوة على مجابهة الهوية الوطنية للدولة الاردنية واقصاءها بذريعة الاقليمية!! في مقابل تعزيزها للانعزالية عن الدولة بتكريس حضور هوية "فرعية من المجتمع" داخل الجماعة و صبغ ذلك بصبغة دينية و نضالية؟!! وذلك بُغية الحفاظ على هيمنتها على مشروع و برنامج الإخوان في الاردن.
كما استطاع التيار الفئوي في الجماعة والتابع لحركة حماس الخارج أن يستقطب وجوهاً موالية له من خلفية عشائرية ، لتكون هذه القيادات اشبه بواجهات عشائرية للجماعة والحزب، يقوم دورها على طلاء أطروحات التيار الفئوية( الفرعية) الفاقعة بألوان وطنية هادئة.
من البساطة هنا جذب اصحاب التوجه الاسلامي لمشروع المكتب السياسي (حماس الخارج) فالقضية الفلسطينية تُقدم على أنها قضية إسلامية ، وفي محاضن الإخوان تحتل مكانةً بالغة الاهمية؛ لهذا فبينما يتربى الأخوان وينضجون على الولاء والامتلاء من القضية الفلسطينية، في مقابل ذلك البراء و الخواء و الفراغ من كل ما هو متعلق بالاردن ، ليتحول الإخوان الاردنيون إلى منكرين للذات الأردنيّة والدولة الاردنية والهوية الأردنية.
في رواية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني يعود الأب إلى حيفا ليلتقي بابنه الذي فقده بالنكبة ، ولكن الصبي ذو الجذور الفلسطينية يترعرع في كنف أبوين يهوديين ، وليصبح فيما بعد جندياً في جيش الاحتلال الإسرائيلي ، وفي رواية سلطانه لغالب هلسه يترك فتى فلسطيني التجارة ويلتحق بأخواله الأردنيين من قبيلة العوازم حاملاً السلاح للقتال.
لا قيمة للأصول والجذور إذا ما سُقي النبت بماء من غير ذات الأرض؛ فالأردنية الحقيقية ليست أصل وجذر اطلاقاً بل هي برنامج وفكر وهي هوى قبل أن تكون هوية.
لا يمكن إغفال الجانب المصلحي الذي وجه البعض لتبني المشروع الفئوي على حساب المشروع الوطني، فجماعة تعتمد على قاعدة فئوية ،لا بد أن تتوجه أشرعة هؤلاء القادة مع رياح القواعد، فإذا الريحُ مالت مال حيث تميلُ.
يبقى أيضاً لمؤسسات الجماعة واستثماراتها _ التي يهيمن عليها التيار الفئوي التابع لحماس الخارج _قدرة جبّارة على توظيف وصهر الكثير من الكوادر الإخوانية من كل الخلفيات الاجتماعية في بوتقة مشروعهم الفئوي.
في جماعة الإخوان كان ذكر الأردن يكاد ينعدم ويضمحل، ولا تلمس داخل أوعية الحركة تثقيفاً و اهتماماً من كوادرها بالقضايا و الشؤون الوطنية بل اختزالاً متجنياً للوطنية بالاقليمية و الوطنيين بالتبعية للاجهزة الأمنية !!
على ذلك لا يمكن نعت الحركة الإسلاميّة_التي هيمنت عليها حماس الخارج _ بالحركة الاردنية ، فهم ينظرون للأردن على أنّه ساحة لا دولة ومحض مجاميع عشائر لا شعب أصيل وهوية عابرة لا انتماء راسخ وخطأ جغرافي رسمه سايكس بيكو، وصنيعة الاستعمار لحماية إسرائيل وأما تاريخ الوطن فهو مبتور في وعي أبنائها؛ يشرح أحد أعضاء المكتب التنفيذي السابقين في جبهة العمل الاسلامي وجهة نظره حول تشكل الاردن و يقول "أن الأردن بلا تاريخ وهو كيان مصطنع يجب أن يذوب في محيطه، وفي الأردن كان هناك _بدو رُحل وليس شعب _ يحرسون سكة حديد الحجاز!! " أليست هذه الفكرة التي تسللت لهذا النموذج السقيم ذاتها الدعاية الاسرائيلية التي قالت عن فلسطيننا بالأمس وتقول عن اردننا اليوم أنها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"!
هذا هو تاريخ تشكل الأردن بعيون نماذج من الحزب التابع للجماعة؛ ويحدثونك بعد ذلك عن وجوب التحديث السياسي و ضرورة الإصلاح!! وهم لم يتصالحوا بعد مع تاريخ "وطنهم" إذ كيف لمن لا يعتقد بأن لهذا الوطن تاريخاً أن يبني مستقبله؟!.
* مؤلف كتاب الجماعة الحائرة.