الحياة الدنيا .. زينة عابرة وظل زائل
أ. د. هاني الضمور
17-05-2025 10:56 AM
تأمل مشهدًا بديعًا ترسمه السماء في لوحة من نور ودرس. قطرة ماء تهبط من علياء السحاب، تنبض بالحياة، تلامس الأرض اليابسة، فإذا بها تكتسي خضرةً ونضارة، وتنمو الزهور والأشجار وتتمايل سنابل القمح في فخرٍ وسكون… ثم لا يلبث أن يأتي يوم، فتذبل الزهرة، وتيبس الورقة، وتنهار السنابل، وتذر الريح كل شيء كأن لم يكن.
ذلك هو مثل الحياة الدنيا، كما صوره خالقها في قوله تعالى:
“واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيء مقتدراً” [الكهف: 45].
ما أبلغ هذا المثل! وما أعمق هذه الصورة! الدنيا ليست سوى مسرح زائل، يوم لك وآخر عليك، لحظة تزدهر فيها الأرواح، وتخضرّ القلوب، ثم تمضي كما يمضي الغيم، فلا يبقى سوى الأثر… أو الحسرة.
لقد جاءت هذه الآية عقب قصة “صاحب الجنتين”، ذلك الرجل الذي اغتر بزينة الحياة: جنة باسقة، مال وفير، خدم كُثر، ومكانة ظنّها لا تزول. وحين واجه صديقه المؤمن، تكبّر وتباهى، ثم جحد النعمة، فأعرض عن شكر المُنعِم، فاستحق أن يُطوى مجده كأوراق الخريف، ويصبح عبرةً لكل من ظنّ أن الدنيا تعلو فوق الحقيقة.
وهنا يوجّهنا الله – بلغة الوحي البليغة – إلى أن نعيد النظر، لا إلى مظاهر الحياة، بل إلى حقيقتها. إنها تشبه نبتة جميلة نشأت بماء السماء، لكنها – في لحظة – تصبح هشيمًا، لا يمسكها شيء، لا تُبقي ولا تذر.
فـ”فاختلط” و”فأصبح”… حرفا فاءٍ خاطفا الزمن، اختصر لحظة النمو ولحظة الفناء في ومضة.
وما بين “فاختلط” و”فأصبح” عمر إنسان، ومجد أمة، وأمنية قلب.
إنها حياة قصيرة… جميلة نعم، لكنها لا تُؤتمن.
إنها مسرحٌ كبير لمن أراد أن يُجيد الدور، لكنها ليست النهاية.
من جعلها غايته، خسر ذاته. ومن جعلها زاده للآخرة، ربح كل شيء.
هكذا الدنيا: تَعطي لتَسلب، تُضحك لتُبكي، تَرفَعُ لتَصْفَع، تُزَيِّن لتَفْتِن.
فلا تغرنك اللحظة، ولا يخدعك الزخرف. فالعاقل من نظر إلى ما وراء الصورة، والموفّق من عرف أن الأعمار تقاس بالمعاني، لا بالأعوام.
كم من أناس ضلّوا حين قارنوا حياتهم بغيرهم، فحرمتهم المقارنة طمأنينة الرضا، أو زرعت فيهم كبرياءً مريضًا!
أما القويّ حقًا، فهو من نظر إلى السماء لا إلى الجيوب، وإلى القلوب لا إلى القصور.
لا تستكبر على من حولك بمالك، فالله الذي أعطاك قادر أن يسلبك. ولا تحزن لفقر أو مرض أو فقد، فالله الذي امتحنك قادر أن يغنيك من حيث لا تحتسب.
فالحياة كما يعطيها الله، لا كما يتوهمها البشر.
استيقظ من غفلة الدنيا، ولا تجعل أحلامك حبيسة حسابات بنكية أو شهرة زائلة.
أحلم أن تُرضي الله، أن تصنع أثرًا، أن تخلّد معنى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه” [رواه مسلم].
وقال ابن عمر رضي الله عنهما:
“التقوى ألّا ترى نفسك خيرًا من أحد”.
فمن رأى نفسه فوق الناس، خسر نفسه، وإن رآها أقلّهم لله، رفعه الله.
نعم، هذه الحياة فانية… لكنها أيضًا فرصة. فرصة أن تصنع لنفسك الخلود، لا بالمال ولا بالأمجاد، بل بما تُقدّمه من خير، بما تبذله من حبّ، وبما تزرعه من صلاح.
فاختر اليوم: هل تكون من العابثين بالزينة الزائلة؟ أم من الساعين للدار الباقية؟