هل باستطاعة الأردن الإفلات من قبضة النظام الدولي الجديد؟
د. محمد البطاينة
22-05-2025 11:27 PM
"التاريخ يفسر السياسة وللجغرافيا وطأة على التاريخ"؛ شكلت هذه القاعدة السياسية أساساً ثابتاً في مسار الدولة الأردنية في مختلف مراحلها التاريخية؛ حيث لم يخرج الأردن من فلك هذه النظرية القائمة على تقدير قوة الجغرافيا السياسية الأردنية و اهمية استقرارها و مدى تأثيرها على توازنات المصالح للدول الكبرى في المعادلة الدولية؛ وتكريساً لهذه الأهمية الجيوسياسية فقد انتُزعت دولة الإمارة من رحم النظام الدولي الأول، وانبثقت من النظام الدولي الثاني دولة المملكة، ومن النظام الدولي الثالث أُعيد صياغة الدولة لتصبح دولة(نصف ديمقراطية) ، واليوم يوشك العالم على ولادة نظام دولي جديد متعدد الأطراف والأقطاب يتجه نحو إعادة صياغة دول المنطقة على أسس وطنية تعددية وتشاركية تمثل انعكاساً لحالة التشاركية (الجبرية) بين أقطاب العالم في النظام الدولي الجديد.
كانت نهاية الحرب العالمية الأولى ١٩١٨ هي التي كرست بريطانيا العظمى كقوة أولى في العالم في النظام الدولي؛ وهو ما منح بريطانيا بمعاونة فرنسا فرصة تشكيل المنطقة بإتفاق سايكس بيكو١٩١٦ واصدار وعد بلفور ١٩١٧ في ظلال الحرب. أقيمت دولة الإمارة في الأردن في ظل الانتداب البريطاني؛ وهنا شهدت الأردن حركة مجابهة للواقع الجديد عبّر عن نفسه بمتوالية من الاضطرابات والثورات ذات البعد القبلي الذي لا يؤسس لدولة (ما قبل دولتي)، وقد استمرت هذه المرحلة التي يصطلح عليها بالانتقالية للنظام العالمي المتشكل للتو حتى عام ١٩٢٨ لتتكرس شروط النظام الدولي وتنتهي المرحلة أردنياُ بالمؤتمرالوطني الذي منح الشرعية الأردنية للحكم الأميري مقروناً بشرعية النظام الدولي، في المقابل أُخمدت الثورة الفلسطينية الأبرز ثورة الأقصى (البراق) لتبرهن عن حالة الاستعصاء الفلسطيني في ذاك الزمان في مواجهة النظام العالمي الذي فرض شرعيته الدولية لليهود على أرض فلسطين.
انتهت الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥ وبها تولت بريطانيا إلى الظل ودخلت في مرحلة الشيخوخة السياسية لتنزاح المملكة العظمى و تحل القوة الأمريكية الفتية الصاعدة محلها في المنطقة بالشراكة مع الإتحاد السوفيتي كإفراز لنتائج الحرب سابقة الذكر وهنا عاشت المنطقة العربية مرحلة اضطرابات واغتيالات وانقلابات حتى عام ١٩٥٧ بغية رسم ملامح عصر ثنائي القطبية في العالم. قامت دولة المملكة في الأردن ١٩٤٦ مع بداية أفول نجم بريطانيا في المنطقة وصدر قرار تقسيم فلسطين بتأييد وتفاهم سوفيتي أمريكي والذي تجسد بحرب فلسطين ١٩٤٨؛ إلا ّأنّ سقوط فلسطين أرخى بظلاله على دول الجوار وتحديداً على دولة محورية بحجم مصر فكان سقوط الملكية المصرية مسألة وقت، وهو ما استوجب دولياً تهيئة المناخ في الداخل لتأسيس الدولة المصرية الجديدة على انقاض المرحلة القديمة؛ فتم إزاحة الأحزاب المرتبطة بالعصر القديم فذهب حزب الوفد في غياهب التاريخ واغتيل حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ليعبد الطريق لحقبة الحكم العسكري في مصر والمنطقة العربيه. في الأردن أغتيل الملك الأريب عبدالله الأول وأغتيل معه حلم مشروع الهلال الخصيب وهو المشروع الذي حاول كسرالإرادة الدولية للتجزئة والتقسيم ، عاشت المملكة في مرحلة انتقالية في حقبة الملك طلال مع دستور ١٩٥٢ الذي أعاد الشرعية الشعبية بالحكم النيابي الملكي الوراثي وهنا كانت حكومة النابلسي الناصرية امتداداً لهذه الحقبة، وفي حين اصطفت الملكية الهاشمية في خندق المعسكر الغربي في المقابل انحازت الحكومة للمعسكر الشرقي لتتحول إلى حكومة أممية استتباعية وتضيع فرصة تمثيل الشرعية الوطنية الأردنية المستقلة في المسار الدولي.أجهظت التجربة الديمقراطية بعد أن خرجت حكومة النابلسي كفرق حساب للتقارب الأمريكي الناصري على وقع التدخل الأمريكي لصالح عبد الناصر في العدوان الثلاثي ١٩٥٦، بعدها بعام دشنت الحرب الباردة بإعلان مشروع الرئيس الأمريكي أيزنهاور لملأ الفراغ الغربي في المنطقة والوقوف في وجه المد الشيوعي وتبعاً لذلك انصهرت القضية الفلسطينية في بوتقة الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي والدول " الرجعية والتقدمية". انعكست الضغوط الاقليمية على النظام الاردني في المشهد الداخلي، و فرض ذلك على الدولة الأردنية احداث تسوية اجتماعية وسياسية من خلال التعاضد مع القيادات و الطبقات الشعبية الأردنية (وقد كان أبرز تعبيراتها الزعيم الوطني وصفي التل ) وذلك لمواجهة الاستهداف الوجودي_ من قبل الأنظمة القومجية و ذيولها التحررية_ للوطنية الاردنية و مشروع الدولة الأردنية و نظامها الهاشمي.
سقط المشروع القومي العربي في عام ١٩٦٧ وأعلن هذا التاريخ عن تكسير أدوات السوفييت في المنطقة بالمعنى السياسي أو بتعبير عبد الناصر نفسه "لم تخسر مصر الحرب بل الروس من خسر"؛ وهنا طرح الأمريكان من موقع الانتصار مشروع روجرز للسلام ١٩٧٠ الذي قبله عبد الناصر وانقلب إلى ربه ، ليأتي السادات وينقلب على أرث عبد الناصر الأممي والإشتراكي ويشرع في تغيير بنية الدولة الاقتصادية والاجتماعية كاستحقاق للهزيمة السياسية التي تجسدت بفرض الرؤية الأمريكية الليبرالية القائمة على تحرير المجال العام( اقتصاد ودين و اعلام ) من سلطة الدولة؛ وهو ما فتح للإسلاميين مخرجاً من هيمنة السلطه وقمعها ولكنه حوّلهم دون وعي ربما إلى غطاء أيدلوجي لتنفيذ سياسات دولية في مقابل خلاصهم المحلي. بدأت أمارات تقهقر السوفييت في المنطقة العربية تتضح معالمها بجلاء وذلك مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد ١٩٧٨، أمّا تفكك الإتحاد السوفيتي فقد كان مآلاً تاريخياً وحتميا ًلسقوط الإمبراطورية الشرقية في أتون الحرب الأفغانية، فيما دخلت الدول الإقليمية في المنطقة العربية في ذات الفترة(١٩٧٨_١٩٩٠)بمرحلة انتقالية كارهاصة لعصر أحادي القطبية الأمريكي.
عُزلت مصر عربياً في أعقاب كامب ديفيد؛ ليقود نتيجةً لذلك الحليف التاريخي للولايات المتحدة القرار العربي وهنا طرحت المملكة السعودية مبادرة فهد للسلام التي كانت نسخة كربونية لمشروع ريغان للسلام ١٩٨١، فيما احترقت العراق وايران في حرب مدمرة في محاولة أمريكية لإضعاف واحتواء مزدوج للقوتين الإقليميتين الصاعدتين، كما استُنزف السوريون (دولةً وشعباً)في صراع سلطوي ١٩٨٢، ودخل اللبنانييون والفلسطينيون في حرب محلية طائفية تم توظيفها سياسياً لصالح القوى الكونية المتصارعة على الأرض اللبنانية. في الأردن هبت رياح نيسان ١٩٨٩ بعد حالة السكون والعزلة السياسية التي عاشها النظام في الملفات الإقليمية وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتجلى ذلك مع اندلاع الإنتفاضة ووأد مشروع مملكة الضفتين بعد اضطرار الملك حسين لاصدار قرار فك الارتباط حتى لا يكون الاردن عقبة في وجه الدولة الفلسطينية المتوخاة.
لقد كانت هبة نيسان بالعمق السياسي هي حراك بيروقراطي وجد فضاءه في القواعد الاجتماعية في المحافظات التي تمثل امتدادات البيروقراط الطبيعية كتعبير عن حالة السخط من داخل بنى الدولة الأردنية على الطاقات والجهود الضائعة و العقيمة التي تكرست للقضية الفلسطينية خلال العقود السابقة؛ إلاّ أنّ هذه الاحتجاجات تم احتواءها بانفراجة تجربة نصف ديمقراطية، وهي التجربة التي فشلت لاعتبارات ذاتية وموضوعية بصياغة مشروع وطني لتنتج مشروعاً فئوياً بثوب أممي لم يستطع ارساء مبدأ تداول السلطه في ميناء السياسة؛ بل أنه حرق سفن الديمقراطية والحرية المتاحة وغرق في بحر محاربة التطبيع. استفرد الأمريكان بالمنطقة بالتزامن مع انهيار الشيوعية وعصفت عاصفة الصحراء بأوهام الأردنيين والفلسطينيين، وهكذا أشعلت نار صدام دخان السلام في المنطقة وجاءت أوسلوا ووادي عربة ووديعة رابين_الأسد كاستحقاق تاريخي لتسوية أمريكية أولية لملفات المنطقة العربية والقضية الفلسطينية والتي انتهت مرحلتها الأولى مع رحيل ( رباعي التسوية) الملك حسين والأسد و عرفات ورايين.
حرب أفغانستان والعراق مثلت قمة الصعود الأمريكي إلى سقف العالم؛ ولكن مع نهاية عام ٢٠٠٦ بدأ العملاق الأمريكي بالانحدار السياسي لتشكل هذه الحروب بداية النهاية لمرحلة نظام أحادي القطبية بعد غرق الأمريكان في الوحل العراقي على وجه الخصوص، وبدأ منذ هذا التاريخ محاولات تشكيل عصر متعدد الأطراف والأقطاب والذي مثل أوباما أوضح تجلياته ؛ وهو الذي عنّون تلك المرحلة بالتغيير ( تغيير السياسة الأمريكية في المنطقة)، و اليوم يريد ترامب ان يكمل الاستدارة الأمريكية لعدوه اللدود أوباما بشعار "السلام ولو بالقوة". لقد شهدت سنوات أوباما الثمانية أزمات وثورات تاريخية دراماتيكية في المنطقة العربية ؛ قادت فيها أمريكا المنطقة من الخلف بُغية المحافظة على نفوذها ومصالحها ولكن باستفراد وهيمنة مطلقة اثبتت فشلها ، و اليوم تبرز الحاجة الامريكية لمشاركة القوى الدولية والاقليمية في حل مشاكل المنطقة وتحاول أمريكا هنا الضغط بالتفاهم والتشارك و "بالقوة ان لزم الامر " على كل الاطراف في العالم و المنطقة خصوصاً لفرض الحلول للمشكلات السياسية المزمنة عبر طرح تسوية (ايرانية ، عراقية ،سورية ، لبنانية) وأردنية بطبيعة الحال فنحن لسنا استثناءً بين دول المنطقة، لتصل في النهاية كل هذه التسويات وتصب في اتجاه إبرام تسوية فلسطينية إسرائيلية نهائية بالرؤية الأمريكية؛ وهو ما يستلزم حسب هذه الرؤية محاولة تغيير او ( تكييف ) عناوين المرحلة السابقة و إعادة تشكيل ( تحديث) السياسة الداخلية لدول المنطقة على أسس تشاركية.
أردنياً؛ عانت البلاد من حالة تأزيم خارجية متعمدة ذات أبعاد سياسية و اقتصادية وأمنية واجتماعية في محاولة لإنهاك النظام و مؤسسات الدولة للانتظام دون قيد أو شرط بالرؤية الامريكية والدولية. إنً دروس التاريخ والجغرافيا التي سقناها تفرض شروطها وأحكامها فلا سبيل للإفلات من قبضة النظام الدولي إلاّ بالتكيف والإنحناء المرحلي حتى تمر العاصفة وإلاّ فحركة التاريخ وصيرورة الأحداث ستتجاوز من لا يجاريها؛ وهذا يتطلب عملياً في هذه المرحلة الوقوف خلف مؤسسات الدولة في معركة تثبيت شرعيتها الوطنية و حماية "منجز" الدولة الأردنية والابتعاد عن خيار الفوضى السياسية الذي تسعى له أطراف وتيارات "أداتية "تستقوي بالمشروع الدولي وتبتز الأزمات في الإقليم للضغط على الدولة والنظام السياسي لفرض الوصفة الخارجية في المشهد الداخلي.
إن خطورة ودقة المرحلة تفرض على الشعب الأردني أن يبحث عن مصالحه الواقعية الأردنية بالمقام الأول والأخير بعيدا عن الأمنيات والأيدلوجيات العاطفية الحالمه التي هي خارج الواقع و خلف التاريخ؛فمع النظام الدولي الجديد الآخذ بالتشكل لا خيار امام الأردنيين سوى التقاط اللحظة التاريخية الراهنة والالتفاف حول مشروعهم الوطني الأردني الجامع و المبتعد عن الانتماءات الجهوية والمناطقية و الفئوية الضيقة ليحافظوا على شرعيتهم الوطنية والوجودية؛ ويعيدوا صياغة أنفسهم كطرف متماسك داخلياً ومتكيف دولياً يستطيع ضمان مصالحه ويستحق بذلك هذا الوطن وهذه الدولة التي حملها الآباء والأجداد على الأكتاف و حموها بأهداب العيون.