حين يصمت صوت تشومسكي .. وتبقى غزة تنطق بالحق
أ. د. هاني الضمور
31-05-2025 02:55 PM
في لحظة من لحظات التاريخ التي تمتزج فيها المأساة بالعبرة، والصمت بالضجيج، يفقد الفيلسوف والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، قدرته على الكلام والكتابة، بعد سنوات طويلة قضاها في مواجهة الإمبريالية، وكشف زيف الأنظمة، ومناصرة الشعوب المقهورة. ورغم أن جسده قد أُنهك، ولسانه قد صمت، إلا أن كلماته باقية تُلهم كل من بقي على العهد، يرفض الظلم ويبحث عن الحق.
تشومسكي الذي لم يتردد يوماً في إدانة السياسات الأمريكية والغربية تجاه فلسطين، والذي وصف إسرائيل بأنها “أكبر قوة استعمارية في العصر الحديث”، يغيب اليوم في لحظة أحوج ما تكون فيها غزة لصوته، لصوت العالم الحر، لصوت الضمير. غير أن الحق لا يُحبس في الأجساد، والكلمة لا تموت بموت قائلها، وإنما تستمر في وجدان الأحرار.
ما يحدث اليوم في غزة، من قتل وتجويع وحصار وتشريد، هو صورة حية لكل ما كان يحذر منه تشومسكي طوال حياته. ها نحن نرى أمام أعيننا كيف يُصنع العدو الوهمي، ويُشوه الضحية لتُجرد من إنسانيتها، ويُشرعن القتل باسم الدفاع عن النفس، ويُسكَت صوت المظلوم بحجة الإرهاب. وها هو الإعلام العالمي، الذي طالما وصفه تشومسكي بأنه أداة للهيمنة لا للحقيقة، يُعيد إنتاج الرواية الظالمة، يبرر الإبادة، ويُضلل الشعوب.
في غزة اليوم، يتجسد قوله: “إذا أردت أن تسيطر على شعب ما، فاصنع عدواً خيالياً يبدو أخطر منك، ثم قدم نفسك كمنقذ لهم.” إسرائيل، بدعم من قوى الاستعمار الجديد، تقدم نفسها كضحية، وتصور أطفال غزة كتهديد وجودي. وفي المقابل، يُغيب صوت المظلومين، وتُقلب الموازين، ويُجبر العالم على التعامي.
لكن القرآن سبق تشومسكي حين قال: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ” [البقرة: 11-12]. كل من يرى في مجازر غزة “حرباً عادلة”، ينسى أن الله قد فضح هذه الحجة منذ القدم، فالمفسد لا يملك إلا أن يبرر فساده بلغة الإصلاح.
تشومسكي، في مسيرته، كان دائم الإشارة إلى أن الحقوق لا تُمنح من الأنظمة الظالمة، بل تُنتزع. وهذا ما نراه اليوم في غزة، حيث يقف شعب أعزل، محاصر، ولكن ثابت، يقاوم لا من أجل قطعة أرض فحسب، بل من أجل كرامة الأمة، من أجل أن يقول: “وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ” [النساء: 75].
لقد كان تشومسكي يدرك أن تشويه التاريخ، وتزييف الوعي، هو أخطر ما تقوم به القوى الكبرى. وهذا يتجلى اليوم في محاولات طمس تاريخ فلسطين، وسلب الفلسطينيين حقهم في أرضهم، وتجريدهم من صفة البشر. وهنا تعود كلماته: “هناك هدف وراء تشويه التاريخ لجعله يبدو وكأن الرجال العظماء فقط هم من يحققون أشياء هامة. يعلم الناس الاعتقاد أنهم عاجزون ويجب عليهم انتظار رجل عظيم ليتصرف.”
لكن غزة تثبت العكس. غزة لا تنتظر أحداً. لا تنتظر بطلاً من الخارج. هي من تصنع البطولة كل يوم بدماء أطفالها ونسائها ورجالها. غزة تقول للعالم: لسنا عاجزين، ولسنا خاضعين، ولسنا صامتين.
وفي هذه اللحظة التاريخية، يصبح غياب صوت تشومسكي نداءً لنا جميعاً. لأن القضية لم تعد فقط قضية فلسطين، بل قضية كل من يحمل في قلبه نوراً، وكل من يرفض أن يكون نسخة طبق الأصل من عقل السلطة. إن العالم اليوم، كما كان يقول تشومسكي، مكان غامض ومربك، وإن لم نستعد لنفكر، ونرتبك، ونبحث، فسوف نصبح أدوات في يد من يريدون لنا أن نكون عبيداً دون أن ندري.
وفي غزة اليوم، تُكتب شهادة الحق بالدم، في زمنٍ أُسكت فيه كثير من الأصوات، إما خوفاً أو طمعاً أو جهلاً. لكن يبقى القرآن شاهداً: “وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ” [إبراهيم: 42].
إن غياب تشومسكي، وإن كان مؤلماً، إلا أن كلماته تبقى حية، تذكّرنا بواجبنا أن لا نصمت. أن لا نركن. أن نرفع أصواتنا مع غزة، ومع كل مظلوم، لأن الحق لا يموت، وإن صمت أهله لحظة.
فغزة اليوم، كما كانت دائماً، تنطق بالحق حين يصمت الجميع.