في رواية “المحاكمة”، لا يعرف جوزف ك. لماذا اتُّهم، ولا متى سيُحاكم، ولا كيف سيدافع عن نفسه. كل ما يعرفه أنه داخل آلة. آلة لا تكلّمه، لكنها تحكمه. لا تعطيه ورقة اتهام، لكنها تضعه تحت الاستجواب. لا تستعجله، لكنها لا تتأخر في سحقه. يقف هناك، في منتصف دائرة ضبابية، حيث لا أحد يعرف شيئًا، ولا أحد يعترف بشيء، وكل شيء يجري كما لو كان طبيعيًا، مؤسساتيًا، منطقيًا… بينما هو في جوهره عبثٌ مريع.
كأن فرانز كافكا كتب روايته خصيصًا ليصف بعض ما يجري اليوم، على نحو أكثر هدوءًا وأقل صخبًا، في دهاليز المؤسسات المعاصرة. لا جدران رمادية ولا محققين رسميين ولا أوامر اعتقال. بل تقييم. فقط تقييم.
يُستدعى المسؤول. يُقال له بلغة لطيفة: نريد أن نقيم الأداء. هذا من صميم الحوكمة. تطوير. تجديد. ضخ دماء جديدة. لكنّ الملامح تقول ما لا تقوله الكلمات. والنوايا تتقدّم على الآليات. والتقارير تُكتب في الظل، بينما تُعرض على الضوء نتائج مُغلّفة بحكمة المجاملة، لا بنزاهة القياس.
في ظاهر الأمر، لا شيء يدعو للقلق. قرار متوازن، لجنة مختارة، ورقة عمل أنيقة. لكن خلف هذه الأشكال، يتكوّن المشهد ذاته: استبعاد لا يُقال إنه استبعاد. محاكمة لا تُسمّى محاكمة. حكم لا يُعترف به كحكم. فقط “عدم تجديد”، “انتهاء دورة”، “تقييم شامل”، و”مصلحة عامة” لا أحد يشرح كيف حُددت ولا بمن تأثرت.
ما الذي يجعل الكفاءة مرهونة بالمزاج؟ ولماذا يتحوّل النجاح أحيانًا إلى ذريعة؟ ولماذا يبدو الصوت المستقل مريبًا، والقيادة القوية عبئًا على الإيقاع العام؟ في كل مؤسسة، هناك لحظة يختلط فيها النظام بالخوف، والسلطة بالتجميل، والقرار بالهروب من الأسئلة. عندها، تُقصى الكفاءات لا لضعفها، بل لأنها كشفت ما لا يُراد له أن يُكشف: هشاشة المعايير، وضبابية النوايا.
في كافكا، تبدو المحكمة وكأنها تؤدي واجبًا روتينيًا. بلا انفعال. بلا عداوة. فقط آلة تمشي. وهكذا، يُقصى بعض القادة اليوم بلا صراع. بلا ضجيج. القرار يُكتب في السطر الأخير، لكن البداية لم تكن عند المؤشرات، بل عند ما قبلها بكثير. في النوايا، في العلاقات، في ما لا يُكتب.
لا يُطلب من أحد أن يعترض. الكل يُقنع نفسه أن التقييم “حق”. أن التغيير “طبيعي”. أن التجديد “مؤسسي”. لكن لا أحد يسأل: لماذا الآن؟ ولماذا هذا الاسم؟ ولماذا هذه الصيغة؟ وحده المراقب الصامت يعرف أن ما يحدث ليس تطويرًا، بل استبدال مؤدب. وأن العبارة التي كُتبت باحتراف، قد صيغت مسبقًا في الخفاء.
ما أقسى أن تتحول المؤسسة إلى مشهد من رواية كافكا. بلا دماء، لكن بالاغتيال البطيء للمعنى. بلا طرد، لكن بالخروج المُهندَس. بلا استجواب، لكن بتقرير يُشبه المرافعة، لا يُقرأ علنًا ولا يُردّ عليه.
ما يحدث لا يُقلّل من قيمة من خرج، بل من صدق من قرر. لا يجرح المنصب، بل يعرّي الكواليس. لأن القيادة لا تُقاس فقط بالمنصب، بل بكيفية الخروج منه. ولا يُختبر النظام بقوة إجراءاته، بل بقدرته على الإنصاف حين لا تكون النتيجة مريحة.
ليست المأساة في أن يُقيّم الناس، بل في أن يُستخدم التقييم كسكين مغلّف بالقانون. تمامًا كما في “المحاكمة”، حيث لا مشكلة في الإجراءات، بل في اللاجدوى. حيث الموت ليس كارثة، بل النتيجة المنطقية لمسار لم يُفهم يومًا.
والسؤال ليس عن الأشخاص، بل عن المبدأ. إن جاز اليوم أن يُقصى الأكفأ تحت غطاء “المراجعة”، فماذا سيُقصى غدًا؟ وهل هناك ما يمنع أن تتكرر المحاكمة… بصيغة جديدة، لشخص جديد، بنفس الورقة الأنيقة؟
في دهاليز المؤسسات، لا نحتاج إلى لجان تقييم، بقدر ما نحتاج إلى مرآة. لا نريد نظامًا يُزيّن قراراته، بل نظامًا يجرؤ على قول الحقيقة، وعلى قبولها. نريد أن نخرج من رواية كافكا… قبل أن تُغلق الصفحة الأخيرة ويقال، مرة أخرى، بلا أثر ولا تفسير: “انتهت المهمة، وتم التنفيذ، ولم يعرف أحد لماذا.”