بين الطالب المسؤول والعابث .. من يكتب مستقبل الوطن؟
أ. د. هاني الضمور
04-06-2025 01:37 PM
في كل جامعة، في كل قاعة درس، وفي كل ممر من ممرات الحرم الأكاديمي، تقف صورتان متقابلتان لطالبين… كلاهما يحملان هوية جامعية، يمران من البوابة ذاتها، ويجلسان أحيانًا على المقعد نفسه.
لكن الفارق بينهما لا يُقاس بالمظهر ولا بالرقم الجامعي، بل بما هو أعمق بكثير: بالموقف من المسؤولية، بالوعي، بالسلوك، وبالإيمان بدور العلم في صياغة الذات والوطن.
الطالب المسؤول لا يأتي إلى الجامعة عابرًا، بل يدخلها بكامل وعيه، بكامل حلمه، وكأنه يعرف أنه في محطة حاسمة من مسار حياته. يرى في الحرم الجامعي محرابًا للعلم، لا مسرحًا للعبث.
كل قاعة درس بالنسبة له فرصة، وكل ساعة محاضرة لبنة في مشروعه الذاتي، وكل ورقة علمية خطوة نحو التميز. يحترم الأستاذ لأنه مرآة معرفية، ويصون المكان لأنه يعتبره بيته الثاني.
يتعامل مع الجامعة بروح الشريك لا المستهلك، بروح المساهم لا المتذمر.
في المقابل، هناك الطالب الذي فقد بوصلته مبكرًا. يدخل الجامعة كأنه يجر قدميه إلى مكان لا ينتمي إليه، يرى المرافق العامة وكأنها ملك عام لا قيمة له، ويعامل الجامعة وكأنها مجرد معبر زمني لا أكثر.
هو حاضر بجسده، غائب بوعيه، يستهين بالقوانين، يسخر من الالتزام، ويُطلق العنان لتصرفاته دون تفكير بعواقبها. يكتب على الجدران، يمزق المقاعد، يرمي النفايات حيث شاء، ويظن أن الحرية تعني الفوضى.
الطالب المسؤول حين يرى ورقة على الأرض يلتقطها، لا لأن أحدًا يراقبه، بل لأن ضميره ما زال يقظًا. أما غيره، فيترك خلفه القاعة وكأن عاصفة مرّت بها.
المسؤول يعرف أن مرافق الجامعة أمانة، بينما العابث يرى أنها عبء على غيره، ومجال للتنفيس والتخريب.
الفرق الجوهري بينهما ليس في الذكاء، بل في العمق الأخلاقي، في التربية، في الإحساس بالمكان، وفي فهم الهدف من التعلُّم.
المسؤول يفهم أن الشهادة وسيلة لا غاية، وأن المستقبل يبدأ من السلوك الصغير: من احترام النظام، من الحضور في الوقت، من إعداد المشروع بجهد ذاتي، من قول “لا” للغش، و”نعم” للجدية.
أما العابث، فكل ما يهمه هو العبور… بأي طريقة، وبأقل جهد، وبأي وسيلة، ولو على حساب ضميره.
وهنا تظهر أهمية دور الجامعة.
الجامعة ليست مجرد مبنى تلقى فيه المحاضرات وتُعطى فيه الامتحانات، بل هي مؤسسة حضارية لصناعة الإنسان.
هي المكان الذي يُعاد فيه تشكيل القيم، وتُبنى فيه الشخصية، وتُغرس فيه بذور المواطنة والانتماء.
وعندما تغيب هذه الرسالة التربوية، تتحول الجامعة إلى صالة انتظار كبيرة، يتخرج منها آلاف الطلبة، بعضهم لا يحمل من أثر الجامعة سوى الشهادة.
في زمن التحديات الكبرى، لا تملك الأوطان رفاهية التساهل مع طلاب عابثين.
فمن يعبث اليوم بمرافق الجامعة، قد يُهمل غدًا ملفًا طبيًا أو مشروعًا هندسيًا أو قرارًا إداريًا يخصّ مصير المئات.
ومن يبرر الغش في الامتحان الآن، قد يبرر الكذب في الوظيفة لاحقًا.
فالعبث ليس مرحلة مراهقة عابرة، بل بذرة خُلق إن تُركت دون تهذيب، صارت شجرة سُمٍّ تظلّل الوطن كله.
وهنا تبرز التربية الأخلاقية بوصفها ضرورة وطنية لا مكمّلة تربوية.
المطلوب ليس فقط تطوير المناهج وأساليب التدريس، بل إعادة بناء الطالب من الداخل.
المطلوب أن يشعر كل طالب أن الجامعة لا تعطي فقط… بل تنتظر منه أن يعطي، أن يعتني بالمكان، أن يضبط سلوكه، أن يحترم غيره، أن يُفكر، أن يبادر، أن يُصلح.
إن بناء الطالب المسؤول يبدأ من اليوم الأول، حين يدخل الجامعة حالمًا لا عابرًا، ومتهيئًا لا متواكلًا.
الطالب المسؤول لا يُكوَّن في قاعة المحاضرة وحدها، بل في الممر، وفي الساحة، وفي الطريقة التي يتعامل بها مع المرافق، مع زملائه، مع الأساتذة، ومع البيئة المحيطة به.
المسؤولية لا تُدرَّس، بل تُمارَس، وتُعاش، وتُزرع بالتجربة والقدوة، وبمواقف يومية صغيرة تصنع رجولة حقيقية وإنسانية حقة.
الجامعات يجب ألا تكتفي بتخريج من حفظ المقررات، بل من فهم معنى الانضباط، وعاش قيم الاحترام، ومارس روح الإصلاح.
الجامعة التي لا تزرع وعيًا، لا تحصد حضارة.
فلنحسم السؤال بصدق:
من نريد أن يكتب مستقبل الوطن؟
الطالب الذي يصنع الفرق؟
أم الذي لا يفرّق بين المقعد والمقلب، بين البيئة والمزبلة، بين الحق والراحة؟
الجواب ليس في المقالات… بل في التطبيق.
في الكلمة التي تُقال في وقتها، وفي القدوة التي تُمارَس أمام العيون، وفي حزم الجامعات حين يجب، وفي شجاعة الطالب حين يختار أن يكون مسؤولًا… لا متفرجًا.
فالمستقبل لا يكتبه إلا الذين يحترمون الحاضر.