حين تحدّث التاريخ .. قراءة في مصير الاحتلال على ضوء نظرية توينبي
أ. د. هاني الضمور
17-06-2025 11:14 AM
تُعدّ نظرية “التحدي والاستجابة” التي صاغها المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي من أكثر المحاولات الفكرية طموحًا لفهم مسار الحضارات البشرية: كيف تنشأ، ولماذا تزدهر، وما الذي يقودها إلى الأفول. انطلاقًا من دراسة موسعة امتدت عبر أكثر من عشرين حضارة، لاحظ توينبي أن المحرك الأساسي للتاريخ ليس العامل المادي فقط، بل تفاعل الإنسان مع التحديات التي تفرضها الطبيعة والبيئة والمجتمع، ومدى قدرته على توليد استجابات خلاقة تتجاوز حدود البقاء إلى مساحات البناء والإبداع.
إن تأمل هذه النظرية في ضوء الواقع المعاصر يُفضي إلى قراءات متعددة، إحداها وأكثرها إثارة للاهتمام تتعلق بما يُعرف بالكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. هذا الكيان الذي تأسس على أنقاض شعبٍ قائم، واستُولد في سياق استعماري متعدد الأوجه، يُقدَّم أحيانًا بوصفه مشروعًا ناجحًا استطاع أن يُقيم لنفسه بنية مؤسساتية قوية، وأن يحقق تفوقًا تقنيًا واقتصاديًا لافتًا. إلا أن التحليل التاريخي العميق، المستند إلى منطق توينبي، يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى أصالة هذا الكيان، وحول قابليته للاستمرار بوصفه “حضارة”، لا مجرّد قوة سياسية أو عسكرية.
لقد نشأ المشروع الصهيوني في قلب تحديات مصطنعة لا طبيعية: اضطهاد اليهود في أوروبا، انهيار الإمبراطورية العثمانية، وصعود النزعة الاستعمارية الغربية التي رأت في تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين تحقيقًا لمصالحها الجيوسياسية. لكن الاستجابة لهذه التحديات لم تكن نابعة من سياق تفاعلي عضوي بين الإنسان والمكان، بل فُرضت عبر القوة والاقتلاع. وهنا تكمن الفجوة الكبرى التي رآها توينبي بين الحضارة المصطنعة والحضارة النامية من صلب الأرض. فالحضارات، في منطقه، تُبنى عبر استجابات نابعة من معاناة أصيلة ومعايشة حقيقية للتحدي، لا عبر تهجير الشعوب أو تزوير التاريخ.
الكيان الصهيوني، في صيغته الراهنة، لم ينجح في بناء تجربة حضارية متكاملة بقدر ما استطاع خلق توازنات هشّة تستند إلى العسكرة والدعم الغربي، لا إلى تجانس داخلي أو شرعية تاريخية. وهذا ما انعكس في بنيته الاجتماعية المتصدعة، حيث تتجلى الصراعات بين اليهود الشرقيين والغربيين، بين المتدينين والعلمانيين، وبين النخب الاقتصادية والسكان المهمّشين. وهي كلها مؤشرات على ما يسميه توينبي بـ”تفكك الكتلة المجتمعية”، الذي يُعد أولى مراحل الانحدار الحضاري.
إلى جانب ذلك، فإن استجابة الكيان للتحديات المستجدة لم تكن خلاقة، بل قمعية واستعلائية. فعوضًا عن تطوير صيغ تعايش إنساني وحلول سياسية عادلة، اختار المشروع الصهيوني توسيع الاستيطان، وممارسة العنف المنظم، وتكريس نظام الفصل العنصري بحق السكان الفلسطينيين. وهذه الممارسات، وإن بدا أنها تحقق مكاسب مؤقتة، فإنها تُفقد المشروع روحه الأخلاقية، وتُعمّق عزلته الدولية، وتُسرّع من عملية التآكل الداخلي، تمامًا كما حذّر توينبي حين قال إن الحضارة التي تعتمد على القوة فقط، دون رؤية روحية أو أخلاقية، تكون قد شرعت في الانتحار البطيء.
في المقابل، يُجسّد الإنسان الفلسطيني نموذجًا مضادًا تمامًا. فعلى مدى أكثر من سبعة عقود، واجه هذا الشعب سلسلة متواصلة من التحديات: النكبة، التهجير، الاحتلال، الحصار، محاولات الطمس الثقافي، لكنه ما فتئ يستجيب بطرق تثبت تماسكه التاريخي وقدرته على التجدد. من الحفاظ على اللغة والهوية، إلى الإبداع في وسائل النضال السياسي والثقافي، استطاع الفلسطيني أن يُعيد تعريف معنى الوجود تحت الاحتلال، لا بوصفه خضوعًا، بل مقاومة تُنتج ذاتها كل يوم. وهذا النوع من الاستجابة، بحسب توينبي، هو ما يؤسس لحضارة حقيقية، لأنها تستمد قوتها من عمق التجربة ومن شعور جماعي بالرسالة التاريخية.
التاريخ، كما رآه توينبي، لا يرحم الكيانات المصطنعة، ولا يخلّد البنى المفروضة بقوة السلاح. فالحضارة ليست جدارًا من إسمنت، بل منظومة متكاملة من المعاني، والقيم، والاستمرارية الروحية. وإذا ما طبّقنا هذا المنطق على الكيان الصهيوني، وجدنا أنه لا يُشكّل مشروعًا حضاريًا قابلًا للاستمرار، بقدر ما هو بناء استعماري هش، يخوض سباقًا دائمًا ضد الزمن وضد الشرعية. أما الفلسطيني، فوجوده في أرضه، وصموده في وجه الإلغاء، واستجابته للتحديات الوجودية بروح مقاومة خلاقة، هي عناصر تُنبئ، في منطق التاريخ، أن حضارته لم تبدأ بعد، لكنها آتية لا محالة.
وإذا كان توينبي قد قال إن الحضارات تموت حين تفقد إرادتها في الحياة، فإن الكيان الصهيوني اليوم يعيش أزمة إرادة، مقابل شعبٍ لم يفقد يومًا الرغبة في البقاء… ولا في التحرير.