الكرك .. ذاكرة عريقة وواقع موجع
بهاء الدين المعايطة
26-06-2025 09:39 PM
منذ خمس سنوات، وهبني الله نعمة الكلمة، فكانت الحروف مرآتي ووسيلتي لتسليط الضوء على ما نراه ونعيشه في تفاصيل حياتنا اليومية. كتبتُ في مواقع عدّة، لكن كانت الانطلاقة الأجمل والأقرب إلى قلبي من خلال موقع "عمون"، الذي منحني المساحة الأولى لأعبّر من خلالها عن الواقع، وأحمل قلمي في يدَيَّ قضيةً وهمًّا وطنيًّا.
لم أكتب يومًا لهدفٍ شخصي أو طموحٍ عابر، بل حملت قلمي بصدق، ووجّهته نحو الحقيقة، وسخّرته لرسالة نزيهة ترسّخ المجد الذي يستحقه هذا الوطن. كتبت عن الإنجازات حين وجدت، وسلّطت الضوء على جوانب التقصير حين غابت العدالة، فكنت شاهدًا ومشاركًا في رسم صورة واقعنا، كما هو... بلا تجميل.
واليوم، حين أنظر إلى الكرك، مدينتي التي أحب، أراها في مشهدٍ لا يشبه ذاك الذي عرفناه. أصبحت الكرك مدينةً مهجورة، توجعنا تفاصيل رحيلها. غاب عنها الرونق الذي كنا نتغنى به، وتلاشت ملامح أيامها الجميلة، تلك التي كانت تتأنق كلما اقتربت مناسبة، وتزهو بخطى أبنائها المملوءة فرحًا وانتماءً.
شوارعها التي كانت تضجّ بالحياة، باتت صامتة، تفتقد أصوات الضحكات وخطى الزائرين. المحال التي كانت نابضة بالحركة أغلقت أبوابها بصمتٍ موجع. لا صوت لأفراح، ولا مشهد لحراك، وكأن الزمن أدار ظهره لمدينةٍ كانت ذات يوم منارات للكرم والعزّة.
الكثيرون غادروها، وتراجعت الحياة فيها، لكن الحنين لا يزال مقيمًا في قلوب أبنائها، والشوق يطرق أبواب الذاكرة في كل زيارة، وكل نظرة على ملامحها العتيقة. الكرك لم تمت، لكنها تنتظر من يعيد إليها نبضها، من يعيد البهاء إلى وجهها، والروح إلى حجارتها القديمة.
وكما حال مدينتنا، فإن أبناءها أيضًا باتوا يواجهون العوائق في طرقهم. افتقدوا لذة الحياة، وعانوا من واقعٍ أثقلته الواسطة والمحسوبية، وأطفأت فيه الكفاءة، وتراجعت فيه الأحلام أمام أبوابٍ لا تُفتح إلا لمن امتلكوا مفاتيح النفوذ. واقع تغيّر كثيرًا، حتى أصبحت العدالة استثناء، والفرص الحقيقية نادرة، والواقع يميل نحو التلاشي.
اليوم، يعاني الكثير من أبناء الكرك من تراجع واضح في مستوى الخدمات، ويشكون من ظلمٍ واقع عليهم من قبل بعض الشركات التي اتخذت من الكرك مقرًا لها، لكنها لم تكن يومًا عند مستوى المسؤولية الأخلاقية أو المجتمعية.
كم تمنّيتُ لو أن تلك الشركات، وقد اختارت الكرك موطنًا لها، بادلت أهلها الوفاء بالتقدير، وردّت لهم الجميل لا بالوعود فقط، بل بالتنمية الحقيقية والفرص العادلة.
كم تمنّيتُ لو أنها رأت في الكرك أكثر من مجرد موقع استثمار أو أرض لمشاريعها، لو أنها شعرت بمسؤوليتها تجاه المجتمع المحلي، وقدّمت شيئًا يليق بأهلها، الذين ما بخلوا يومًا في احتضان كل زائر ومقيم.
لكن المؤسف أن ما نشهده اليوم هو عكس ذلك تمامًا؛ شركات تتوسّع وتربح، بينما أبناء المنطقة يعانون البطالة، ويقفون بعيدًا عن فرص العمل، وكأنهم غرباء في أرضهم. تغيب العدالة، وتغيب الرقابة، ويغيب معها الحد الأدنى من الإنصاف.
إن الكرك لا تطلب شيئًا أكثر من حقّها، لا ترفع صوتها مطالبة بامتيازات، بل تسأل عن فرصٍ عادلة لأبنائها، وخدمات تحفظ كرامة ساكنيها، وتنمية حقيقية تُحاكي حجم التضحيات التي قدّمتها هذه الأرض عبر التاريخ.
ولا يزال الأمل قائمًا في أن تُراجع الجهات المسؤولة دورها، وأن يُعاد النظر في آلية عمل تلك الشركات، وأن يُلزم كل مستثمر بردّ الجميل لأرض احتضنته، وناس فتحوا له الأبواب. فالوطن لا يُبنى بالشعارات، بل بالعدالة، والانتماء، والشراكة الحقيقية.
ومع ذلك، لا تزال هناك نفوس تؤمن بأن الحق لا يموت، وأن العدل له طريق، وإن طال. الكرك، كما أبناؤها، قد تنكسر لحظة لكنها لا تنهار، وقد تمرض لكنها لا تلفظ أنفاسها. فهذه المدينة التي عاشت العزّ، قادرة أن تستعيده إن وقف أبناؤها من جديد، ومدّوا أيديهم بإيمانٍ لا ينكسر.
وفي زيارة مهيبة، حمل سيدي صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، شعلة الأمل حين التقى بأبناء الكرك، واستمع لهم، ووجّه بإعادة فتح الأبواب أمام طموحاتهم، وإعادة الفرص العادلة لهم، ليكونوا فاعلين وشركاء حقيقيين في بناء وطنهم، لا متفرجين على مشاهد التراجع.
الكرك تستحق الحياة... وأبناؤها يستحقون الأمل. فلنمدّ أيدينا جميعًا، ونكتب فصلًا جديدًا من المجد، كما كتبناه يومًا بأمانة، وحفرناه في ذاكرة هذا الوطن.