لماذا لا يُستحدث مجلسا وطنيا للقوة الناعمة في الأردن؟
أ.د. خلف الطاهات
28-06-2025 11:14 PM
رغم محدودية الموارد وتحديات الموقع الجغرافي، استطاع الأردن عبر تاريخه أن يصوغ لنفسه مكانة رفيعة على المستويين الإقليمي والدولي، بفضل ما يمتلكه من مقومات قوة ناعمة تتجاوز الحسابات التقليدية للقوة. فالسياسة الخارجية المعتدلة، والشرعية الهاشمية، والدور الإنساني، والاستقرار الداخلي، كلها عناصر أسهمت في ترسيخ صورة الأردن كـ دولة عقلانية، صانعة للسلام، ومؤتمنة على القيم الأخلاقية في زمن النزاعات والانقسامات.
لقد لعبت القيادة الهاشمية دورًا محوريًا في هذا التوجه، حيث كرّس جلالة الملك عبد الله الثاني مفهوم الدبلوماسية الأخلاقية والهادئة، وانبرى للدفاع عن القدس والمقدسات، كما قدّم الأردن عبر مبادرات مثل "رسالة عمان" نموذجًا متقدمًا في الحوار بين الأديان والتقريب بين الثقافات.
في السياق نفسه، شكّل الأردن نموذجًا يُحتذى في الاستقرار الأمني والسياسي في محيط مضطرب، مما جعله قبلة للمؤتمرات الدولية ومقرًا للمنظمات الأممية والإقليمية.
كما أن مؤسساته الأكاديمية والإعلامية أسهمت في بناء صورة ذهنية محترمة، بفضل ما تصدره من خريجين وكفاءات إعلامية وفكرية، كان لهم دور في تسويق القصة الأردنية في الخارج بمهنية واتزان.
ومن بين أبرز ملامح القوة الناعمة الأردنية أيضًا، يأتي الدور الإنساني الريادي الذي تضطلع به الدولة منذ عقود، من خلال استقبالها لاجئين من فلسطين والعراق وسوريا واليمن، واستضافتهم رغم الضغوط الاقتصادية. هذه السياسة الأخلاقية، وإن كانت مكلفة داخليًا، إلا أنها منحت الأردن رصيدًا أخلاقيًا وسياسيًا نادرًا في العالم.
كذلك، تُعد المواقع الدينية والتراثية الأردنية مثل موقع المعمودية، والبتراء، وجرش، وأضرحة الصحابة، مكونات أساسية في البنية الثقافية الناعمة للمملكة، تُستخدم لتعزيز التواصل الحضاري وجذب السياحة الروحية والثقافية.
وعلى الصعيد الأمني، فإن الجيش العربي الأردني ومشاركاته في قوات حفظ السلام الدولية، والبعثات الإنسانية والطبية، شكّل بعدًا جديدًا للقوة الناعمة، يقدم الأردن كدولة لا تصدّر الصراع، بل تسهم في إطفاء نيرانه.
إلا أن هذا الرصيد الثري جدا من القوة الناعمة، وإن كان غنيًا، ما يزال بحاجة إلى تفعيل ممنهج واستثمار استراتيجي. لذا أصبحنا اليوم في أمسّ الحاجة إلى استحداث هيئة أو مجلس وطني (أيا كان المسمى حتى لو مكتبا) مختص بالقوة الناعمة، يتبع مباشرة لمجلس الوزراء أو لوزارة الخارجية او الاعلام، أسوة بالتجارب الرائدة في دول المنطقة كالإمارات وقطر، التي أدركت منذ وقت مبكر أن التأثير الحقيقي والفاعل لا يُصنع فقط عبر القوة الصلبة، بل من خلال القوة الناعمة التي تبني صورة الدولة وتعزّز مكانتها في الوعي الجمعي للشعوب والمؤسسات.
ينبغي أن يُناط بهذا المجلس تطوير استراتيجية وطنية شاملة ومتكاملة للقوة الناعمة الأردنية، تشمل مختلف المجالات التي يمكن للأردن أن يتفوق من خلالها، كالثقافة والفنون، والتعليم والبحث العلمي، والإعلام والدبلوماسية العامة، والهوية الوطنية، إلى جانب مجالات السياحة والاقتصاد والصناعات الإبداعية. فالأردن يزخر بمقومات طبيعية وتاريخية وإنسانية قادرة على التأثير بعمق إن تم توظيفها ضمن رؤية استراتيجية طويلة المدى.
كما يجب أن يعمل هذا المجلس المقترح على مراجعة كافة السياسات والتشريعات الإعلامية والثقافية والتعليمية التي قد تؤثر سلبًا أو إيجابًا على صورة المملكة في الخارج، بما في ذلك آليات الخطاب العام وآدائه، وأساليب الترويج لرسالة الدولة. كما يقع على عاتقه التنسيق المستمر مع البعثات الدبلوماسية الأردنية، والجامعات، والمراكز الثقافية، ووسائل الإعلام داخل المملكة وخارجها، لتوحيد الخطاب وتعزيز الرواية الأردنية الإيجابية والدقيقة في كل المحافل.
وفي السياق ذاته، ينبغي أن يتولى المجلس مسؤولية بناء علاقة تواصل مستدامة مع المجتمعات المؤثرة عالميًا، لا سيما في المناطق الاستراتيجية والعواصم الدولية الكبرى، من خلال أدوات غير تقليدية، تستند إلى التأثير الشعبي والثقافي والإنساني، وتنتقل من التمثيل الرسمي إلى الحضور الاجتماعي والمعرفي والوجداني.
إن تأسيس مثل هذا المجلس لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل بات ضرورة وطنية ملحّة تمليها تحديات اللحظة التاريخية التي يمر بها الأردن والمنطقة من حوله. إذ أن معركة الحضور والتأثير في العالم لم تعد تُخاض بالسلاح ولا بالاقتصاد وحدهما، بل بما تمتلكه الدول من صورة ذهنية، ورصيد أخلاقي، وشرعية ثقافية وإنسانية. والأردن، بما يمتلكه من خصوصية جغرافية، وعمق تاريخي، وقيادة تحظى باحترام دولي، قادر على أن يصوغ لنفسه موقعًا رياديًا ضمن خرائط النفوذ الناعم في الإقليم والعالم.
نحن هنا لا نحتاج إلى اختراع أدوات جديدة للتأثير، بل إلى استثمار ما لدينا في الاردن من كنوز معنوية وتاريخية وسياسية وإنسانية، وتوجيهها ضمن استراتيجية موحدة، تدرك أن التأثير الحقيقي لا يُفرض، بل يُلهم، فهل نشهد قريبا ميلاد هيئة او مجلسا للقوة الناعمة في الأردن؟.