في أحد المقاهي المزخرفة بصور المغنين الأمريكيين، وعلى طاولة تعلوها قهوة "لاتيه" بحروف لاتينية منمّقة، يجلس شاب عربي يرتدي قميصًا يحمل شعارًا لماركة أمريكية، يتصفّح هاتفه، يقرأ أدعية و صلوات شاركها صديق على "إنستغرام"، ثم ينتقل سريعًا إلى فيديو راقص من "تيك توك". ما بين الصلاة والموسيقى، بين "الايمان" و"الستايل"، يولد السؤال المؤلم: من نحن؟
نعيش في مجتمعات عربية معلّقة بين رمزين كبيرين: الشرق والغرب، الروحانيات والكابيتول. فالجيل الجديد يرغب في أن يكون متديّنًا، لكنه لا يستطيع أن يتخلى عن وجبة البرغر، ولا عن جاذبية الملابس العصرية، ولا عن الحديث بالإنجليزية المكسّرة، ولا حتى عن متابعة أحدث حلقات "نتفليكس". وهكذا، يصبح الوجود الثقافي مشطورًا بين "الأسلمة" كهوية إيمانية أخلاقية، و*"الأمركة"* كحالة من الاستهلاك والانبهار والإعجاب، فالاسلمة هنا تعبير عن الدين لغالبية الشعوب العربية أو حتى ثقافة للجميع ، أمّا الامركة فهي نتاج عن صنع أمريكا للخدمة و المنتج و الثقافة.
ليس هذا التناقض مجرد أزمة أخلاق، بل هو صراع هوية. فالشباب العربي لا يريد أن يتخلى عن جذوره الدينية، لكنه في ذات الوقت لا يرى في مظاهر التديّن القديمة ما يتماشى مع طموحه العصري. هو لا يرفض الإيمان، لكنه يرفض أن يُلبس الإيمان ثوبًا باليًا. فيخترع لنفسه نسخة هجينة من كل شيء: فتاة ترتدي الحجاب لكن قميصها قصير، شاب يصلي ويصوم لكنه يتحدث بلغة الأغاني الأمريكية، ويعيش بمقاييس النجاح التي حددتها الثقافة الرأسمالية الغربية.
هذه الثنائية ليست دائمًا نفاقًا، بل هي أحيانًا صرخة داخلية لخلق هوية ثالثة، هوية تستطيع أن تصالح بين الروح والجسد، بين الدين والحداثة، بين المعبد والمول، بين الصمت التأملي وضجيج الحفلات. لكن المشكلة أن هذه المصالحة لم تُصَغ بعد بشكل واضح، ولا يدرَّسها أحد، ولا تحظى بقيادة فكرية قادرة على أن تصوغ جوابًا مقنعًا.
إننا نعيش على هامش عالمين: أحدهما يقول لك "كن عبدًا لله"، والآخر يقول لك "كن سيد نفسك". فأي عبد حر؟ وأي سيّد مؤمن؟ بين الأسلمة والأمركة، نحن نحاول أن نرسم ملامح وطن داخلي، لا تُحدده خارطة، بل يرسمه سؤال بسيط: هل يمكن أن أكون مؤمنًا وعصريًا في ذات الوقت؟ وهل عليّ أن أختار أحد الطريقين، أم أن الطريق الثالث يولد من عمق التمزّق ذاته؟
في الواقع لا يمكننا أن نرفض ما ينتجه الغرب ، فحتى المقاطعة التي قمنا بها بعد السابع من اكتوبر هي انتقائية بحتة ، فنحن نقاطع برفاهية لأنّ المقاطعة الحقيقية الخالصة سنعود بها إلى الخيام ، لذلك تبدأ هذه الازدواجية تنهار عبر خلق صورة واضحة منطقية من خلال اقتصاد مستقل ، اعداد جيل منطقي متعلم و تصميم ثقافة مناسبة جامعة.
في دول شرق آسيا ، هناك تأثر كبير و عميق بالثقافة الغربية، لكن في الوقت ذاته نلاحظ تثبيتا للثقافات المحلية على تنوعها ، أما نحن فللأسف يخلق هذا الصدام الحضاري شعورا بالنفور، خصوصا في البيئات التي يحرص اصحابها على استعراض تفاصيل الايمان.
فكيف علينا أن نعيش؟
الفكرة تتلخص بأن نكون منطقيين قدر المستطاع ، أن لا نتعلّق في المنتصف ، أن لا نستغلّ تفاصيل الدين لخلق شهرة عبر "السوشال ميديا"، أن نحترم فكرة الايمان الداخلي، ذلك الشعور الذي يربط بين الانسان و ربّه ، بحيث تكون العلاقة عامودية و ليس افقية ، لكي يرى الجمهور و يقيّم.
هذا لا يعني أن الأمل مفقود، بل أن السؤال الحقيقي لم يُطرَح بعد: كيف نصوغ إيمانًا عصريًا لا يُفرّط في الجذور ولا يُقصي الحداثة؟ كيف نعيد بناء شخصية لا ترتعد أمام الموضة، لكنها أيضًا لا تتقوقع في نصوص بلا سياق؟ هل يمكن أن نؤمن بإلهٍ نحبه لا فقط نخافه، وأن نعيش حياة متوازنة لا تبدأ بـ"افعل ولا تفعل"، بل بـ"كن نبيلاً"؟
إن التناقض بين الأسلمة والأمركة لا يعني الفشل، بل يشير إلى عمق التغيير الذي يعيشه العقل العربي. نحن لسنا مجرد مستهلكين، بل أبناء زمن يبحث عن طريق ثالث، لا يُقلد أحدًا، بل يخلق نفسه بنفسه. طريق لا يُخجل فيه المرء من صلاته، ولا من قهوته الباردة، ولا من ضحكته.