نحو عقل أكاديمي جماعي وصناعة قرار وطني مشترك
أ. د. هاني الضمور
01-07-2025 11:58 AM
لم يعد التعليم العالي ترفًا معرفيًا في زمن تتشابك فيه الأزمات وتتعدد فيه الأسئلة المصيرية المتعلقة بالمستقبل. بل أصبح شرطًا رئيسيًا في أي محاولة جادة لبناء تنمية مستدامة قادرة على الصمود أمام الأزمات، والمنافسة في عالم لا يعترف إلا بالمعرفة المؤثرة والعمل المؤسسي المتكامل. والجامعات، بما تحمله من إرث أكاديمي وقدرات بشرية ومكانة اعتبارية، ليست مجرد مؤسسات تعليمية مستقلة، بل هي رافعة من روافع السياسات العامة، وقادرة على صياغة الحلول وتوجيه القرار الوطني حين تُفعّل بوصفها جسدًا واحدًا لا أطرافًا متفرقة.
لكن حين نُلقي نظرة موضوعية على واقع الجامعات الأردنية، نجد مشهدًا تتقاطع فيه الكفاءة بالانعزال، وتجاور فيه الطاقات مع ضعف التنسيق. فرغم وجود كفاءات علمية مرموقة، وقدرات بحثية واعدة، وبرامج أكاديمية متنوعة، إلا أن الجهود في كثير من الأحيان تبقى محصورة داخل المؤسسة الواحدة. لا تتواصل الجامعات بالقدر الكافي، ولا تتكامل في البرامج أو البحوث، ولا تصوغ خطابًا وطنيًا موحّدًا تجاه القضايا الكبرى التي تؤرق الدولة والمجتمع.
في المقابل، تقدم العديد من الدول نماذج ناجحة تبرز كيف يمكن للعقل الأكاديمي أن يتحول إلى قوة جماعية فعّالة، تصوغ القرار وتدفع بعجلة التنمية. ففي الولايات المتحدة، نجح اتحاد الجامعات العامة في إنشاء منظومة تعاونية تربط بين أكثر من مئتي جامعة، تعمل معًا في الأبحاث والمناهج وتطوير السياسات، وتنتج أثرًا ملموسًا في التعليم والاقتصاد والبيئة. أوروبا كذلك استطاعت من خلال برامج مثل “إيراسموس+” و”هورايزون أوروبا” بناء بيئة علمية مترابطة تتخطى الحدود، وتُسهِم في صياغة حلول استراتيجية عابرة للدول. أما في سنغافورة، فقد باتت جامعة سنغافورة الوطنية مثالًا على كيفية تحويل الجامعة إلى محور لتنسيق العمل البحثي الإقليمي، وربط الجهود الوطنية ببرامج تطبيقية واقعية، دون أن تذوب الخصوصيات المؤسسية في مركزية بيروقراطية.
ما يجمع هذه التجارب هو إدراكها العميق بأن التميز الفردي لا يكفي ما لم يُدمَج في بنية تعاونية قادرة على تعظيم الأثر. فالمشكلة اليوم ليست في غياب العقول، بل في غياب الربط المنهجي بين هذه العقول. وليست في قلة الإنتاج العلمي، بل في عدم تكامله وتوجيهه نحو ملفات حيوية تحتاج إلى استجابات مشتركة. هنا، تبرز الحاجة إلى مراجعة فلسفة التعليم العالي في الأردن، لتنتقل من العمل المنعزل إلى التفكير الجماعي، ومن منطق الإنجاز المحلي إلى الرؤية الوطنية الشاملة.
إن القضايا التي تواجه البلاد، من شحّ الموارد الطبيعية إلى البطالة، ومن فجوة مخرجات التعليم إلى التحول الرقمي، لن تجد حلولها الحقيقية داخل جدران جامعة واحدة، مهما بلغت من القوة. بل تحتاج إلى توحيد الجهود الأكاديمية، وتنسيق الأولويات، وبناء مساحات مشتركة للتفكير والبحث والتطبيق. وهذا لا يعني دمج الجامعات أو تذويب هويتها، بل تأسيس أرضية تعاونية تُحترم فيها التخصصات، وتتوزع فيها الأدوار، وتُربَط فيها القرارات العلمية برؤية الدولة الكبرى.
تحقيق ذلك يتطلب إعادة النظر في البنية المؤسسية التي تحكم العلاقة بين الجامعات، وفي القوانين والأنظمة التي توجه البحث العلمي والبرامج الأكاديمية. فآليات التمويل يجب أن تتجاوز منطق التوزيع التقليدي، وتتحول إلى أداة لتحفيز المشروعات المشتركة ذات الأولوية الوطنية. والبرامج الأكاديمية بحاجة إلى مراجعة تكاملية تجعل من الجامعات وحدات متعاونة في تصميم المحتوى، وتنفيذه، وتقييم أثره. كما أن سياسات التوظيف والترقية الأكاديمية ينبغي أن تُكافئ روح الفريق، والعمل التشاركي، والمبادرات التي تتجاوز حدود المؤسسة نحو المصلحة العامة.
التدريس المشترك بين الجامعات، والذي قد يبدو لأول وهلة رفاهية، يمكن أن يكون أداة قوية في ترسيخ التفاعل بين الأساتذة، وتعميق التجربة التعليمية لدى الطلبة، وبناء وعي وطني أوسع لدى النخبة الأكاديمية. كذلك فإن إنشاء مراكز بحثية وطنية تُدار من أكثر من جامعة، أو منصات رقمية مفتوحة للمشروعات البحثية التعاونية، يمكن أن يكون نقطة تحول حقيقية في طريقة إنتاج المعرفة واستثمارها.
في النهاية، فإن بناء عقل أكاديمي جماعي ليس شعارًا تنظيريًا، بل ضرورة استراتيجية. فالعالم لا ينتظر من الجامعات أن تكرر نفسها، ولا من المؤسسات أن تتباهى بأعداد الخريجين والمنشورات، بل أن تنتج معرفة قابلة للحياة، وتساهم في بناء قرار وطني مستنير، وأن تطرح نفسها كشريك حقيقي في التنمية، لا كمراقب على هامشها.
الجامعات الأردنية تمتلك الإرث، والإمكان، والكفاءة. وما ينقصها هو الربط. والربط ليس عملية إدارية، بل ثقافة مؤسسية تبدأ من القناعة بأن لا جامعة تستطيع بمفردها مواجهة ما هو وطني، وأن الإنجاز الحقيقي ليس ما ننجزه فرادى، بل ما ننجزه معًا.