في زوايا الوعي العربي، تنمو مفارقة غريبة، يكبر فيها الحلم بالأندلس من رحم النسيان العدمي، ويزهر الحنين في أرضٍ لم تكن يومًا عربيّة بالمعنى العميق، ولا إسلاميّة كما يتخيلها العقل الجمعي؛ فهي لم تكن سوى أرضٍ أوروبية، دخلها العرب في لحظة من لحظات التاريخ وخرجوا منها كما يخرج الضيوف من ديار لا تخصّهم. ومع ذلك، فإن الحنين العربي إلى الأندلس يبدو كحالة وجدانية متضخمة، أشبه بلحظة هروب من واقع مرير، إلى ذاكرة مُتخيلة، تنتقي من التاريخ ما يُرضي الإحساس بالبطولة والضياع في آن، والواقع بعيد كليا..
وفي المقابل، يبدو الموقف من فلسطين أكثر واقعية من حيث الجغرافيا والسيادة والحق، لكنها تحضر أحيانًا في الذهن العربي كفريضة قومية لا يُراجعها أحد، بينما يُغمض هذا الذهن عينه عن تشابهات لا تُغتفر. فكيف يُمكن لإنسانٍ أن ينادي بتحرير فلسطين ويطالب بعودة الأرض إلى أهلها، وفي ذات الوقت يرفع صورة صدّام حسين كرمز للبطولة والنخوة، بينما لم تكن مغامرته في غزو الكويت إلا وجهًا آخر للاحتلال ذاته؟ ألم يكن الكويتيون شعبًا له سيادة، تمامًا كما للفلسطينيين حق في السيادة؟ أين كانت البوصلة الأخلاقية يومها، حين استُبيحت حدود دولة عربية من شقيق عربي آخر؟
ينبش هذا الانفصام وجدان الإنسان العربي، الذي يتقلب بين العاطفة والمبدأ، بين ما يراه عدلًا في أرض، وظلمًا مبررًا في أخرى.
وبينما يُشيّد خطابه السياسي على أسس المظلومية والحق التاريخي، لا يتوانى عن تجميل طغاة، وتزيين الخراب إذا نبع من جهة قريبة، أو تحدث باسم العروبة. وهنا، تصبح العروبة ذاتها شيفرة ملتبسة، تُستخدم لتبرير ما لا يُبرر، وتُلبس القبح ثياب المجد، كلما تعلق الأمر بـ"زعيم" يُتقن الخطابة ويستثير الجماهير.
لا يُمكن قراءة هذه الازدواجية بعيدًا عن بنيات ثقافية عميقة، رُبيت الأجيال عليها، حيث البطولة لا تُقاس بنتائج الفعل، بل بنبرة الصوت، وحيث الأرض تُصبح مقدسة إذا نُزعت منها بالقوة، لكنها تبقى قابلة للتنازل إذا سرقها من نحب. هذه ليست فقط مشكلة سياسية، بل خلل بنيوي في علاقة العربي بالتاريخ، وفي فهمه لمعادلات الحق والباطل، حيث يُكافأ الغازي إذا نطق بلغتنا، ويُلعن إذا جاء من خارج السرب.
هكذا، تصبح الأندلس أيقونة باذخة، معلقة على جدار العجز، تستحضر في القصائد والأناشيد، لا بوصفها تجربة للحوار أو التعايش، بل كأرضٍ غُدرت، دون مراجعة حقيقية لدور العرب فيها، أو لسبب خروجهم منها. ويغدو الحنين إليها أشبه بطقس هروبي، يعفي من مواجهة الواقع، ويمنح العربي إحساسًا زائفًا بأنه كان يومًا شيئًا عظيمًا، حتى لو لم يعرف أين تقع قرطبة على الخريطة.
أما فلسطين، فتغدو أحيانًا مرآة يُنظر إليها بشغف وحماسة، لكنها لا تُستخدم دائمًا لفحص الذات. فلو حوّلنا تلك الحماسة إلى معيار نقيس به كل عدوان على شعب، لربما اكتشفنا أن ذاكرتنا مثقوبة، وأننا نعيش على اختيارات عاطفية لا أخلاقية. نحزن على الفلسطيني، لكننا نسخر من الكويتي، نلعن الاستيطان الإسرائيلي، ونغض الطرف عن قصف المدن العربية بأيدٍ عربية.
الازدواجية ليست عيبًا خاصًا بالعرب، لكنها تأخذ في هذه الرقعة من الأرض شكلًا صارخًا ومؤلمًا، لأنها لا تُنتج شيئًا سوى مزيد من التناقض والتخبط. وربما لن تبدأ نهضة حقيقية ما لم يعترف العربي أولًا بأن الاحتلال مرفوض من أي جهة أتى، وأن الحنين إلى الأندلس لا يجب أن يكون بديلاً عن بناء حاضر واضح المعالم، يُنصف الإنسان في حاضره، لا يكتفي بالبكاء على أطلال لم تكن يومًا له حقًا.
فنحن تماما نمثّل الغرب بازدواجية ، نحن كالامم المتحدة التي ندعّي عدمية جدواها، فنحن ندعم و ندعو و نناشد عبر العقود...