بين التصنيف والنزاهة: حين لا تكفي الأقنعة لتغطية الأسئلة
أ. د. هاني الضمور
09-07-2025 08:28 PM
في زمنٍ تتسابق فيه المؤسسات إلى إبراز حضورها في التصنيفات الدولية، لم يعد كافيًا أن نحجز مكانًا في قائمة عالمية، بينما نفتقد إلى الحضور الحقيقي في سلوكنا الإداري، وفي منظومتنا الأخلاقية، وفي ممارستنا اليومية لقيم الشفافية والمساءلة.
حين صرّح وزير التعليم العالي بأن الجامعات دفعت مبالغ طائلة من المال لتحسين مواقعها في التصنيفات، بينما تراجعت في مؤشرات النزاهة، فإن التصريح لم يكن عاديًا. لقد حرّك أسئلة جوهرية تتجاوز تفاصيل الصرف والإدارة إلى عمق العلاقة بين الصورة الخارجية والمضمون الداخلي.
هل يعكس هذا التناقض خللًا في الأولويات؟ وهل كانت التصنيفات هدفًا بحد ذاته، أم وسيلة تم تضخيمها على حساب الجوهر؟
ثم، إذا كانت الأموال صُرفت فعلًا، فهل تم ذلك في غياب رقابة الوزارة ومجلس التعليم العالي؟ وأين كانت أدوات التحقق، وآليات المتابعة، وقراءة الجدوى من كل هذا الاستثمار؟
إذا كان هناك إدراك رسمي بأن المبالغ كانت طائلة، فلماذا لم يُطرح هذا التساؤل في حينه؟
وإذا كانت النزاهة تراجعت، فلماذا لم يتم تفعيل المساءلة المؤسسية مبكرًا؟
هل كانت المؤشرات مجرد تقارير صامتة، أم أنها لم تُقرأ أصلًا إلا حين ظهرت نتائجها السلبية للعلن؟
النزاهة لا تُقاس فقط بمؤشرات رقمية، بل بثقافة مؤسسية ترفض التزييف، وتواجه الخلل، وتبني القرار على الكفاءة لا الولاء.
والتصنيفات لا تصنع مؤسسات ناجحة، بل تعكس نجاحًا حقيقيًا متراكمًا. أما حين تتحول إلى غاية تُنفق عليها الموارد، وتُستخدم للتسويق، دون معالجة ما هو أعمق، فإننا نكون قد أضعنا الاتجاه.
الوزير، في تصريحه، أشار إلى مفارقة بين ما أُنجز ظاهريًا وما كان يجب أن يُبنى واقعيًا. لكنها مفارقة لا تخص الجامعات وحدها، بل تفتح سؤالًا أكبر:
أليست وزارة التعليم العالي، بحكم موقعها، مسؤولة عن التوجيه والرقابة والتقييم؟
وأليس من دور مجلس التعليم العالي أن يراجع ويضبط بوصلة السياسات الجامعية، ويمنع انحرافاتها قبل أن تقع؟
حين نُطلق أحكامًا دون أن نراجع أدوارنا كمؤسسات مركزية، نكون قد سلكنا الطريق الأسهل: التنصل لا التصحيح.
والأصعب من الخطأ هو تجاهله، أو تأجيل مواجهته، حتى يتضخم ويصبح أزمةً تُلقى على الآخرين.
إننا لا نرفض التقييم، بل ندعو إلى أن يكون مبنيًا على أدوات علمية، وتحليل رصين، وقراءة واقعية لا انفعالية.
الحقيقة أن القيم لا تترسخ بالتصريحات، بل بالممارسات اليومية، وبنظام حوكمة لا يُستثني منه أحد.
وما بين الشفافية النظرية والنزاهة المزعومة، تكمن الحاجة إلى مساءلة شجاعة، تسأل نفسها أولًا:
هل راقبنا بما يكفي؟
هل كنا جزءًا من البناء، أم غيابنا ساهم في الخلل؟
هل استجبنا للمؤشرات حين ظهرت مبكرًا، أم انتظرنا حتى أصبحت محرجة؟
إنها لحظة مراجعة لا لحظة اتهام.
لحظة تفكير في كيف نبني تعليمًا لا يقوم فقط على ترتيبٍ عالمي، بل على عدالة داخلية، ومؤسسات تعرف أن القيمة الحقيقية لا تُقاس بما يُكتب عنها، بل بما تحققه من أثر عادل ومستدام.
وفي النهاية، يبقى السؤال الأهم معلقًا:
هل نحن صادقون مع أنفسنا حين نتحدث عن النزاهة؟
أم أننا نستخدمها، في لحظات، كقناعٍ نُخفي خلفه غياب الرقابة، وسوء التقدير، وتراكمات لم نجد شجاعة التعامل معها إلا بعد أن فات أوان المبادرة؟