facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




حكام وخطابات


فيصل سلايطة
13-07-2025 09:49 AM

في عالم السياسة، لطالما كانت الخطابات أداة قوية بيد القادة، تُستخدم إما لبثّ الطمأنينة والعقلانية، أو لتأجيج العاطفة وتخدير الشعوب بشعارات كبرى لا تجد طريقها إلى أرض الواقع.

التاريخ الحديث شاهد على العديد من الخطابات التي كانت نارية في ظاهرها، لكنها لم تكن سوى فقاعات إعلامية سرعان ما تلاشت مع زوال المصلحة أو اكتمال السيناريو المطلوب.

حين وقف صدام حسين، في إحدى خطبه المتلفزة، ليقول إنه "سيجعل النار تأكل نصف إسرائيل"، دوّى التصفيق في الشوارع العربية، وارتفعت معنويات الشارع الغاضب، لكن الواقع لم يشهد تلك النار الموعودة، بل شهد حروبًا أنهكت العراق وأحرقت شوارعه ، كانت تلك الخطابات، في كثير منها، موجّهة للشعوب أكثر من خصوم الخارج، تنفخ في أوهام الانتصار لتغطي على واقع مأزوم أو لتكسب وقتًا في أزمات داخلية.

وفي سياق مشابه، لوّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أحد خطاباته مؤخرا ، بأن روسيا لن تسكت إذا ما دعمت أمريكا إسرائيل في حرب ضد إيران، وهدد بـ"إجراءات غير مسبوقة". لكن المتابع للتوازنات الدولية يعلم أن تلك التصريحات لا تتعدى لغة الضغط السياسي والدبلوماسي، وهي موجهة للداخل والخارج على حد سواء، لكنها في النهاية تخضع لميزان المصالح لا المبادئ.

وعلى الضفة الأخرى من العالم العربي، تظهر نماذج مختلفة من الخطاب الرسمي. فحين يتحدث الملك عبد الله الثاني عن أمن واستقرار الأردن باعتباره "أولوية قصوى"، فإنه لا يستخدم مفردات التهديد أو الوعيد، بل يؤسس لسياسة داخلية متوازنة، تراعي مصلحة الدولة ومخاوف الإقليم. إنها عقلانية الدولة التي تدرك حدودها، لكنها لا تتنازل عن كرامتها ، فهل من الصعب عليه أن يقول " سنحارب اسرائيل غدا؟ "

وكذلك كان خطاب الشيخ زايد، مؤسس دولة الإمارات، يركز على حماية الاتحاد ونهضة الإنسان. لم يكن الرجل يهتم بالاستعراض الإعلامي، بل كان يرى أن التنمية هي السلاح الأقوى، وأن الانخراط في معارك وهمية لا يجلب سوى التخلف والتراجع. لذا سارت الإمارات على طريق التنمية المستدامة، ورفعت سقف أحلام شعبها بالعلم والعمل لا بالشعارات.

لكن النقيض لا يغيب. ففي الجزائر، وقف أحد المرشحين للرئاسة بعد حرب غزة في حملته الانتخابية ليقول مخاطبًا المصريين: "افتحوا لنا الحدود!"، في إشارة إلى نية مواجهة إسرائيل عبر غزة. خطاب حماسي يلهب مشاعر الناخبين، لكنه سرعان ما اختفى بعد فوزه في الانتخابات، ولم تُفتح الحدود، ولا تغيّر شيء في موازين الصراع. إنها لعبة السياسة حين تُستخدم المشاعر كوسيلة للوصول إلى الكرسي، لا أكثر.

المفارقة أن الشعوب تدرك هذا التلاعب، لكنها تتورط فيه مرارًا بفعل التكرار والعاطفة والتاريخ. أما الزعماء الذين يحترمون وعي شعوبهم، فيختارون لغة الواقع لا الوهم، لأن الأوطان لا تُبنى بالخطب، بل بالسياسات المدروسة والرؤية البعيدة عن الضجيج.

إن الفرق بين الزعيم المهوِّل، والزعيم العاقل، يكمن في المسافة بين الكلمة والفعل. فالأول يسكن في ميكروفونات الإعلام، والثاني يزرع في الأرض واقعًا تلمسه الأجيال.

لطالما شكّلت الخطابات السياسية مرآة لنية الحاكم، وخريطة أولية لما قد تؤول إليه سياسات الدولة. فإذا كانت الكلمات مفعمة بالتهديد والوعيد والتجييش، فإنها في الغالب تُمهّد الطريق لصدامات كبرى، وقد تقود الأمم إلى حروب كارثية، كما فعل أدولف هتلر حين حوّل خطاباته إلى منابر للكراهية والتفوق العرقي، مجيشًا ملايين الألمان خلف حلم "الرايخ الثالث" الذي انتهى بأوروبا تحترق وجثث بالملايين.

كان هتلر بارعًا في دغدغة الشعور الجمعي، يحوّل الحقد إلى وقود، والكلمات إلى رصاص.

ومثله فعل موسوليني، الذي اعتلى المنصة في روما ليبشّر بـ"إحياء مجد الإمبراطورية الرومانية"، فدفع شعبه إلى سلسلة من الحروب الاستعمارية والصراعات التي أنهكت إيطاليا وقزّمت دورها.

أما ستالين، فاختار خطاب الرعب والتطهير، برفع شعار العدالة الشعبية بينما يغرق البلاد في القمع والترهيب، وكانت كلماته تشعل الخوف أكثر مما تبعث الطمأنينة، فصار كل خطاب له مقدمة لمرحلة جديدة من البطش باسم الوطن.

على النقيض من ذلك، كان بعض الحكام يسيرون على طريق العقل لا الغضب. خطاباتهم لا تُبنى على الغريزة بل على العقلانية. لم يَعِدوا شعوبهم بما يفوق المنطق، بل أكدوا لهم أن الاستقرار الحقيقي يأتي من الداخل، من بناء الإنسان والمؤسسات، من تحسين التعليم والرعاية الصحية، لا من الاندفاع في معارك خاسرة أو الاصطفاف مع صراعات الآخرين.

الفرق بين مدن دمرتها شعارات التهويل، وأخرى نهضت بالعقل والحكمة، يكمن في الكلمة الأولى التي تُقال على المنصة. فالكلمات ليست مجرد حروف تُلقى، بل هي اتجاه ومسار. في عالم السياسة، من يزرع في العقول الكراهية، يحصد الدم، ومن يزرع الثقة والعقلانية، يحصد الازدهار.

إن الشعوب التي استُخدمت كوقود لمعارك كبرى تدرك الآن قيمة الكلمة الرصينة، والخطاب المسؤول، وتفهم أن الزعيم الذي لا يهوّل، لا يعني أنه ضعيف، بل قد يكون الأشد بأسًا لأنه يملك شجاعة العقل لا عجز الانفعال.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :