في الرابع عشر من تموز عام 1958، استيقظ العراق على صوت الرصاص، لا على أمل الفجر. اقتحم الجيش قصر الرحاب في بغداد، مقر العائلة المالكة الهاشمية، لتنتهي معه صفحة من التاريخ العراقي الحديث بطريقة دموية وصادمة. اغتيل الملك الشاب فيصل الثاني، إلى جانب وصيه الأمير عبد الإله والملكة نفيسة، ورموا بجثثهم في باحة القصر، وسط شتائم الجنود وعدسات المصورين. لم يكن مجرد انقلاب عسكري، بل كان بداية انفجار في قلب الدولة، وكسرًا للحلم الملكي الذي وُلد على يد الشريف حسين بن علي وأبنائه.
تُعد مجزرة قصر الرحاب نقطة تحول حاسمة في تاريخ العراق الحديث، إذ لم تكن العائلة المالكة مجرد حكام بل رموزًا للهوية والشرعية والانفتاح. اغتيالهم لم يكن سياسيًا فقط، بل أخلاقيًا وثقافيًا، إذ هُدّمت معهم فكرة الدولة المستقرة والمؤسسات الدستورية. المأساة لم تقتصر على القتل، بل امتدت إلى طريقة التنفيذ: إذ أُطلق الرصاص على فيصل الثاني، وهو الشاب الصغير سنا ، وأُهين جسده الطاهر، حتى وُصف المشهد بأنه حوبة (خطيئة) ستبقى في رقبة العراق عقودًا طويلة.
لو بقيت الأسرة الهاشمية تحكم العراق، لربما كنا أمام مشهد مختلف تمامًا. كان فيصل الثاني شابًا متعلمًا، متأثرًا بالتجربة الأردنية، حالمًا بإصلاحات شاملة وتحديث الدولة. ومع وجود زعامات قوية كعبد الإله ونوري السعيد، كان بالإمكان بناء عراق دستوري، متوازن، مزدهر، يشبه ما حدث في الأردن. فبينما اختار الأردن طريق التدرج والإصلاح السياسي بقيادة الملك حسين بن طلال، حافظ على استقراره، وبنى مؤسساته الأمنية والتعليمية والاقتصادية ببطء ولكن بثبات، ظل العراق يدور في دوامة الانقلابات والانشقاقات والحروب.
لم يعرف العراق استقرارًا حقيقيًا بعد تلك الليلة، إذ أعقب المجزرة سلسلة من الانقلابات والدماء، وصولًا إلى حكم صدام حسين، الذي كرس الدكتاتورية، وأشعل حروبًا أكلت الأخضر واليابس. من الحرب مع إيران، إلى غزو الكويت، ثم الحصار الدولي، وصولًا إلى الاحتلال الأمريكي، كان العراق دائمًا يدفع ثمن أخطاء قياداته ونكبات التاريخ.
صدام لم يكن فقط دكتاتورًا، بل كان نهاية طبيعية لمسار بدأ بقتل الملك في قصره، فكيف يُنتج وطنٌ مستقرٌ من رحم الفوضى والدم؟
إن ما حدث في قصر الرحاب لم يكن مجرد نهاية لعهد ملكي، بل بداية لحقبة من الظلم والتدهور والخيبات. في الذاكرة العراقية، ما زال فيصل الثاني يُذكر كرمز بريء لوطن قُطع رأسه في فجر مظلم. وما زالت الحوبة قائمة، كأن العراق لم يُكفّر عن تلك الخطيئة بعد، ولا عاش عهدًا مزدهرًا منذ ذلك اليوم.
مجزرة قصر الرحاب يجب أن تبقى في العقل الجمعي العربي لتؤكد أن أسوأ الملكيات (بحسب رأي الناس) أفضل من أفضل جمهورية عربية ، فالانظمة الملكية ثابتة مستقرة رغم العقبات ، أما الجمهوريات فتسير وفق أهواء الحاكم...