الحوكمة في المؤسسات التعليمية .. شعارات فضفاضة أم واقع مفقود؟
أ. د. هاني الضمور
15-07-2025 09:35 AM
في السنوات الأخيرة، لا يكاد يخلو خطاب تعليمي رسمي أو مؤتمر أكاديمي من مفردة “الحوكمة”. تتكرر العبارة في التقارير والخطط الاستراتيجية والشعارات الوزارية: حوكمة التعليم، حوكمة الإدارة الجامعية، حوكمة الموارد… لكن حين نقترب من تفاصيل الواقع، لا نجد من هذه الحوكمة سوى اسمها، أما جوهرها، فغائب أو مُفرّغ من مضمونه.
أبرز تجلّيات هذا الغياب يظهر في كيفية تعيين أعضاء مجالس الحوكمة في الجامعات العربية، سواء كانوا أعضاء في مجالس الأمناء أو المجالس العليا أو المجالس الاستشارية. فبدل أن تكون هذه المجالس نموذجًا يُحتذى في الشفافية والمهنية والاستقلال، غالبًا ما تتحوّل إلى أطر شكلية، تضم أسماءً مختارة مسبقًا، لا على أساس الكفاءة أو التنوع أو الرؤية الأكاديمية، بل وفق اعتبارات سياسية، أو توازنات اجتماعية، أو ببساطة… علاقات شخصية.
إذا كنا جادين في تطبيق الحوكمة، فلنبدأ بالسؤال المؤجل: من يعيّن من؟ ولماذا؟
الواقع يقول إن كثيرًا من التعيينات في مجالس الجامعات تُدار خلف الكواليس، دون إعلان رسمي، أو منافسة علنية، أو معايير مفهومة. وغالبًا ما يُفاجأ الوسط الأكاديمي بأسماء لم يُستشر فيها أحد، ولا يُعرف على أي أساس تم اختيارها. وفي حالات أخرى، نجد أعضاءً لا علاقة لهم فعليًا بالتعليم العالي أو الحوكمة الجامعية، بل يفتقرون إلى الحد الأدنى من الفهم لطبيعة أدوارهم ومسؤولياتهم.
هنا، يحق لنا أن نسأل: كيف يمكن لمجلس بهذا التكوين أن يمارس رقابة فعالة على الأداء الجامعي؟ كيف يصوغ سياسات طويلة الأمد، أو يقيّم الكوادر الأكاديمية، أو يتخذ قرارات استراتيجية تمسّ مستقبل التعليم؟
والأدهى، أن هذه المجالس تُقدَّم في التقارير الرسمية باعتبارها تجسيدًا للحوكمة، بينما هي في حقيقتها تمارس دورًا شكليًا، وتُدار وفق مركزية صارمة لا تسمح باستقلال حقيقي للجامعة أو مساءلة فعلية لأدائها.
الواقع المؤلم هو أننا نتحدث كثيرًا عن الحوكمة، لكننا لا نمارسها. نُدرّسها في مقررات الإدارة الجامعية، ونُصدّرها في المؤتمرات الدولية، بينما في داخل المؤسسات نفسها، تُدار القرارات بأسلوب فوقي، مغلق، وتخلو من أبسط مقومات الحكم الرشيد.
لسنا بحاجة إلى شعارات جديدة. نحن بحاجة إلى مراجعة صريحة ومؤلمة لطبيعة أنظمتنا الجامعية، لنعترف أن غياب الشفافية في التعيينات هو أول ما يُفرغ الحوكمة من معناها. فأن نتحدث عن مجالس حوكمة دون آلية واضحة لتشكيلها، هو كمن يبني قاعة للعدالة دون قضاة مؤهلين.
الحوكمة ليست ديكورًا إداريًا. إنها منظومة قيم وممارسات تبدأ من اختيار الأشخاص الذين يُفترض أنهم يراقبون، ويُقيّمون، ويُحاسبون. ولا يمكن لأي مؤسسة جامعية أن تدّعي التقدم أو الجودة أو الاستقلال، إذا كانت مجالسها مُعيّنة على أساس غير شفاف، وغير خاضعة للمساءلة.
المطلوب اليوم ليس التنظير. بل الانتقال من الكلام إلى الفعل، ومن الوثائق إلى التطبيق، ومن الشعارات إلى الإجراءات. الحوكمة إما أن تكون ممارسة تبدأ من رأس الهرم الجامعي، أو لا تكون سوى زخرفة إدارية تُجمّل تقارير لا تعكس ما يدور فعليًا في الجامعات.
ولعل أخطر ما في الأمر، أن استمرار هذا الواقع لا ينعكس فقط على قرارات الإدارة، بل يترك أثرًا عميقًا في جودة التعليم، ومخرجاته، ومكانة الجامعات في محيطها. فحين لا تُبنى القيادة على الكفاءة، تتصدع كل مفاصل المؤسسة، من المناهج إلى البحث العلمي إلى علاقة الجامعة بمجتمعها.
هل نملك شجاعة السؤال؟ وهل نملك إرادة التغيير؟ أم أن “الحوكمة” ستبقى مجرد كلمة رنانة نرددها في المؤتمرات، ونهرب من معناها حين تطرق باب الممارسة؟