الموسيقى العربية .. نماذج و نجاحات
فيصل سلايطة
15-07-2025 03:38 PM
الموسيقى العربية ليست فنًا عابرًا يُستهلك كما تُستهلك الموضة أو المنتجات، بل هي انعكاس للهوية، للثقافة، وللمزاج الجمعي لأمة ممتدة من المحيط إلى الخليج. هي نافذتنا الأولى لنعرف الآخر ونافذته الأولى ليعرفنا، نحب لبنان لأننا نعرف فيروز، ونحب العراق لأننا نعرف ناظم الغزالي، ونفهم مصر لأننا نحفظ أم كلثوم.
في حاضرنا الفني، لا يمكن الحديث عن الموسيقى العربية دون التوقف طويلاً أمام ثلاث تجارب غنية ومعقدة تسيطر اليوم على الساحة : عمرو دياب، اصاله نصري ، وفضل شاكر. ثلاثة أصوات، بثلاث طبائع مختلفة، لكنها في مجموعها ترسم صورة شبه متكاملة لما تعنيه الموسيقى العربية اليوم.
أصالة نصري: الصوت الذي يشبهنا… ويشبه العرب
لا يمكن فهم ظاهرة أصالة نصري إلا بوصفها صورة من صور الإنسان العربي ذاته: مُتقلّب، مشبوب بالمشاعر، موزّع ما بين الماضي المجيد والحاضر المعقّد ، يقدر المظهر الى الحد الذي لا يجرح العين . فهي ليست فقط مطربة، بل سيدة عبرت الزمن بصوتها، بحزنها، بفرحها، وحتى بسقوطها وقيامها. عانت من الشلل في طفولتها، من الخيانة ، من السجن الرمزي في حياتها العاطفية و الوطنية، لكنها بقيت واقفة، قوية، تشبه دمشق التي وُلدت منها، والتي مهما تهدمت تعود لتبني نفسها بصبر وأنفة.
أصالة لا تعتمد على مظهرها، ولا تبيع فنها عبر جسدها، بل صوتها وحده هو الجسد الكامل. صوتٌ غنيّ بالنبرات، واسع الطبقات، يقدر أن يصعد ويهبط دون أن يفقد صدقه حتى و إن اعترض البعض على قمّة قوته.
هي الأم التي ربّت بصدق ، ولم تكن يومًا نجمة عابرة، بل صوت لقضية، لصوت المرأة، لصوت الجريح، لصوت الرفض والمقاومة. غنّت للشعب الفلسطيني ، لغزة " اصحاب الأرض " ، للعراق الموجوع، لسوريا التي انكسرت وصرخت، للبنان الذي نزف. غنّت بالكردي والمغربي والخليجي والشامي والأردني واللبناني، وجعلت من صوتها خريطة كاملة للعالم العربي ، هي التي خُوِّنت لمعارضتها للأسد ، فسقط الاسد و هرب ، و بقيت أصاله !
عمرو دياب: الظاهرة التي لم تهرم و لن..
منذ أن غنّى "راجعين" و"ميال"، أدرك الجميع أن عمرو دياب ليس مجرد مغنٍ عادي. إنه ظاهرة صوتية وثقافية، تجاوز بها حدود المألوف، بل وأعاد تشكيل فكرة "النجم" في الموسيقى العربية. عمرو دياب واكب كل الأجيال، وأعاد تشكيل لغتهم الموسيقية، كان صوت المراهقين في التسعينيات، وصوت الشباب في الألفينات، وما يزال اليوم نجم المنصات الرقمية بكل عنفوان الشباب.
كان دائمًا في مقدمة التجديد، لم يقف عند "النغمات " كما هي ، بل طورها، رقص بها ، خفّف أحمالها، ونقلها من الخيال إلى الوجدان.
عمرو دياب لا يبكي، لا يتوسل، بل يُغني بابتسامة واثقة، بنبض هادئ، كأنه يقول: الحياة يمكن أن تكون جميلة بلا دراما. إرثه اليوم لا يُقاس بعدد الأغاني فقط، بل بالتأثير الثقافي، بتغيير الذوق العام، وبالحفاظ على وهج نجوميته في زمن تتغير فيه الوجوه بسرعة فائقة.
فضل شاكر: الإحساس الذي خانه الانتماء..
لم يعرف الجمهور العربي صوتًا أكثر دفئًا من صوت فضل شاكر. هذا الرجل الذي غنّى " معقول" و"يا غايب" بصوت يُشبه الرجفة العاطفية، دخل قلوب المستمعين بلا استئذان. لم يكن يُتقن فقط فن الغناء، بل كان يُتقن فن الإحساس، كأن كل جملة موسيقية فيها قصة حزنه الشخصية.
لكن التجربة الإنسانية لفنان بحجم فضل شاكر لم تخلُ من الزلل، بل من كارثة. انغماسه في الفكر المتطرف، انحيازه إلى منابر متشددة، دخوله في سجال عقيم باسم الدين، كان خطيئة في حق نفسه قبل أن تكون في حق جمهوره. ابتعد عن الفن، ثم عاد محاولًا التوبة بالصوت وحده، لكن الذاكرة الجماعية لا تمحو بسهولة.
ومع ذلك، لا يمكن إلغاء إرثه الفني. لا يمكن إنكار كم من المرات بكى المحبّون على صوته، وكم من مرة صدح اسمه بين العشاق ، أو في لحظة حنين. هو صوتُ الحب، وصوت الحنين، وصوت الخسارة أيضًا. والتجربة معه تُظهر أن الفن قد يُصيب الروح لكنه لا يحمي الجسد من السقوط.
عبر هؤلاء الثلاثة و غيرهم الكثير ، نرى وجوهًا متعددة للموسيقى العربية: القوة والضعف، الصمود والانهيار، الانفتاح والانغلاق. أصالة التي تشبه العرب في تعقيدهم وكرامتهم وتناقضاتهم و حتى في الدخول الحساس في مضمار السياسة . عمرو دياب الذي يشبه حلم "العربي الجديد" في الانطلاق نحو العالمية دون التفريط في الجذور. وفضل شاكر الذي يشبه الضياع حين لا تعرف الروح أين تنتمي.
نعرف الأمم من فنانيها، كما نعرف بيروت من صباح، و الرياض من محمد عبده ، وعمان من سميرة توفيق. الموسيقى ليست ترفًا، بل سجلًّا حقيقيًا لهوية الأمم. وفي زمن الانهيارات، تبقى الموسيقى جسرا بين ما نعيشه وما نحلم به.
لا يمكننا مطلقا الصاق كل ما هو رديء بالموسيقى ، لا يمكننا نبذها بسبب نماذج مشوهة مرّت و تمر بأروقتها ، الموسيقى وطن الروح ، سر الكون ، هي الملاذ الآمن من ضياع الاحساس ، و بها تتعرف الشعوب على بعضها البعض ، فهل يمكننا العزوف عن الصلاة بسبب رجل دين فاسد؟