إلى الرئيس أحمد الشرع… إلى من يملك أن يغيّر وجه سوريا ، هذه الكلمات ليست مجرد نصيحة، بل صرخة في وجه تاريخ طويل من الأخطاء التي يجب أن تتوقف الآن قبل أن تبتلع ما تبقى من وطن.
سوريا التي كانت يومًا قلب المشرق تحولت إلى ساحة خراب ، لأن من حكمها نصف قرن ظن أن السلطة ملك أبدي، وأن القمع يمكن أن يزرع الولاء في صدور الناس. خمسون عامًا من حكم الأسد، الأب ثم الابن، لم تنتج سوى جروحًا مفتوحة، وكراهية متوارثة، وانفجارات لا تنتهي. لقد بنوا سلطة على الخوف، فتحولت البلاد إلى سجن كبير، حتى انفجر السجن في وجوه الجميع.
ما حدث في حماة لم يُنسَ، ولن يُنسى، لأنه لم يكن مجرد حدث عابر بل كان رسالة بأن الدم هو وسيلة النظام للحوار. هذه السياسة هي التي صنعت اليوم ثورات الكراهية، وجعلت السوري يرى في أخيه خصمًا، وفي طائفته ملاذًا، لأن الدولة غابت وحل محلها منطق العصابة. فلا تكرروا الخطأ، ولا تصنعوا من جديد أفعالًا ستولد غدًا ثورات لا يمكن كبحها. إن من يظن أن النار تطفئ النار لا يفقه معنى التاريخ، فكل قطرة دم تُسفك اليوم ستكون لعنة في الغد.
سوريا ليست طائفة ولا حزبًا، سوريا وطن للجميع، للعلوي والمسيحي والدرزي والسني والكردي و العلماني، ولا قيمة لوطن يبنى على الإقصاء. كلما ضيقتم الخناق على مكوّن، صنعتم وحشًا ينتظر لحظة الانقضاض. العدالة وحدها هي التي تحمي، والمواطنة وحدها هي التي تخلق الاستقرار. لا تجعلوا المسيحي يشعر بالغربة في بلده، ولا تجعلوا العلوي يخاف من انتقام، ولا تدفعوا السني نحو التطرف لأنكم حاصرتموه. الدولة التي لا تحتضن الجميع، تتحول إلى ركام.
لا تنجروا إلى حرب جديدة مع إسرائيل، ولا تفتعلوا مواجهة خارجية لتغطية الداخل. هذا الوهم جرّبناه في تاريخنا الحديث، فكانت النتيجة دمارًا وهزائم. القوة الحقيقية ليست في خوض معارك عبثية، بل في بناء وطن متماسك. انظروا إلى تجارب مصر والأردن، اختاروا السلام مع العدو لأنهم أدركوا أن حماية الداخل أهم من استعراض الشعارات ، وحين فعلوا ذلك، استطاعوا أن يبنوا دولًا رغم كل التحديات.
أنتم اليوم بحاجة لأن تفكروا بالحدود التي تنزف، مع لبنان الذي صار ساحة نفوذ خارجي، ومع الأردن الذي يخشى أمن حدوده. استقرار الجوار ليس ترفًا، بل هو جزء من أمن سوريا نفسها.
لا تظنوا أن اللعب بورقة الطوائف في لبنان، أو فتح معابر التهريب نحو الأردن، أو استخدام الميليشيات لحسابات سياسية، هو سياسة دولة؛ هذه أفعال العصابات التي تبيع سيادة الأوطان. لقد جرب النظام هذه اللعبة نصف قرن، وها هي سوريا اليوم: ممزقة، منهوبة و شبه مستباحة ، هذه السياسات لم تمنحكم القوة، بل عزلتكم، وخلقت كراهية لم تعرفها الأمة في تاريخها الحديث.
أحمد الشرع، إن أردت أن تكتب اسمك في صفحة خلاص سوريا، فلتكن البداية في الاعتراف بأن ما جرى طوال عقود هو خيانة لفكرة الدولة. السلطة التي قامت على الرعب لا يمكن أن تصنع وطنًا، ولا يحميها إلا المزيد من الدم، لكنها تسقط في النهاية تحت ثقل أحقادها. أمامك خياران: أن تكون امتدادًا لنهج قتل البلاد باسم الحفاظ عليها، أو أن تكون الرجل الذي يقطع هذا السلسال الدموي. اكتب في الذاكرة أن سوريا تتسع للجميع، وأنها لن تبقى ساحة لصراعات إيران وإسرائيل، ولا ممرًا لميليشيات تنهش جسدها، ولا أرضًا مهددة بالتقسيم.
لا تجعلوا بأفعالكم الناس يترحّمون على حكم طاغية ترك البلاد في ليلة و ضحاها و هرب ، اجعلوا العنوان العام هو المصالحة ، الحوار ، النقاش ، ضعوا دستورا مدنيا شموليا ، الدين لله و الوطن للجميع.
من غير المنطقي أن تتفجر كنيسة بعد هروب الاسد ، من غير المنطقي أن يحلق شارب كهل درزي ، كما كان من الظلم سابقا استهداف السني ، أو التضييق على الشيعي .
السلام مع إسرائيل ليس خيارًا عاطفيًا ولا خيانة كما يحاول أن يصوّره تجار الشعارات، بل هو خطوة عقلانية إذا كانت الغاية إنقاذ سوريا، وإخراجها من دوامة الخراب والحروب التي استنزفتها لعقود.
نحن لا ندعو إلى حب إسرائيل، بل إلى كسر وهم الحرب الأبدية الذي استُخدم غطاءً لسرقة البلاد وقمع الشعوب. خمسون عامًا والنظام يرفع شعار “المقاومة والممانعة”، فيما الجولان تحت الاحتلال، والشعب غارق في الفقر والموت. السلام الحقيقي ليس تنازلًا عن الكرامة، بل استعادة لها عبر بناء دولة قوية من الداخل، دولة تستثمر مواردها في المدارس والمستشفيات بدل المقابر والمعتقلات. لا نريد أن نصافح عدوًا بقدر ما نريد أن نوقف نزيف وطن، لأن معركة سوريا اليوم ليست على الحدود مع إسرائيل، بل في بيوتها المهدمة ودماء أبنائها و قدرتهم على التجانس.
قضية اللاجئين ليست مجرد ملف إنساني، بل هي جرح مفتوح في قلب الوطن. ملايين السوريين موزعون في المخيمات والمدن، في الأردن ولبنان وتركيا وأبعد، يعيشون الغربة بانتظار لحظة أمان لم تأتِ بعد. هؤلاء ليسوا أرقامًا في سجلات الأمم المتحدة، بل أبناء سوريا الذين يجب أن يعودوا، لأن الوطن بلا شعبه مجرد أرض خاوية. لكن العودة لا تكون عبر الوعود الفارغة أو التهديدات الأمنية، بل ببناء الثقة، بإلغاء الخوف الذي يجعل السوري يفضل خيمة باردة على بيت في بلده. لا بد من ضمانات حقيقية، قانونية وأخلاقية، بأن لا يستهدف العائد، ولا يُبتز، ولا يُهان. يجب أن يسمع اللاجئ من دولته: عُد فأنت آمن، عُد ولن تكون مطاردًا، عُد لتشارك في إعادة بناء وطنك بدل أن تكون غريبًا في أوطان الآخرين. مستقبل سوريا لن يُكتب في الشتات، بل على أرضها، ولن تقوم الدولة إذا ظل أبناؤها خائفين من العودة إلى حضنها.
هذه رسالتي إلى سوريا، إلى الأرض التي استضافتني طفلاً سائحًا في أزقتها، إلى شوارع دمشق التي عرفتُ فيها رائحة الياسمين في أمسيات الصيف الطويلة، وإلى ضحكات كنت أظن أنها أبدية تحت سماء لا تعرف الغروب. في داخلي حب عميق لها لا تهزه السنوات ولا تقتله الحروب، حبٌ لا ينبع من حدود مرسومة على الخرائط بل من ذكريات محفورة في الروح، من وجوه الناس الطيبين، من تلك الحياة التي جمعتنا قبل أن تفرّقنا الدماء.
أكتب اليوم لأنني أؤمن أن سوريا تستحق أن تعود وطنًا للحياة، لا ساحة للموت، وأن الياسمين يجب أن يزهر من جديد على جدران بيوتها بدل دخان الحرائق.