مع احترامي لكل القنوات الفضائية العربية، وخاصّة قناة الجزيرة، أقول: كفى.
كفى صورًا دامعة، ولقطات من تحت الأنقاض، وطفولة مبتورة تتكرر على شاشاتنا حتى فقدت ملامحها الأثر.
ما يحدث في غزّة لم يعد حدثًا، بل أصبح زمنًا كاملًا من الانكسار.
زمنًا يتوارثه الأطفال، ويكتبه التاريخ بدمٍ لا يجفّ.
نُشاهد، نعم. نتألّم، نعم. نبكي، نعم.
لكن إلى متى نظل نستهلك الحقيقة حتى تفقد حرارتها؟
إلى متى نظن أن الصورة وحدها تكفي؟
في كل بثٍّ مباشر، هناك أم تفقد ابنها،
وفي كل لقطات الإعادة، هناك بيت يتحوّل إلى تراب،
وفي كل صمت بعد الخبر، هناك روحٌ صغيرة تُنتزع من الحياة... بلا مبرر.
في غزّة، لا تُقاس الأيام كما نقيسها نحن.
الزمن هناك ليس أربعًا وعشرين ساعة، بل أربعًا وعشرين محاولة للنجاة.
أربعًا وعشرين لحظة قد يُنهار فيها سقف، أو يفقد طفلٌ أطرافه، أو تنطفئ عائلة بأكملها.
في إحدى الزوايا المظلمة في مخيم مدمّر،
تخيلت طفلة اسمها "آمَل"...
لم تتجاوز الخامسة، لكنها تعرف عدد أنواع القنابل أكثر من أنواع الحلوى.
كانت تحتضن دميتها الممزقة وتجلس بجوار نافذة مهدمة،
ترفع عينيها نحو السماء وتسأل:
"هل سيتوقف هذا قريبًا؟ هل سيعود أبي من الغياب؟ وهل سأعود لأرسم شمسًا على الجدار؟"
آمَل لم تكن حالة فردية، بل رمزًا لطفولة أُجبرت على النضج المبكر،
ورغم الألم، كانت تسير وسط الرماد تبحث عن شيءٍ لم يُقصف بعد: الأمل.
كانت تُحاول أن تصنع من الحجارة دمية،
ومن الخوف حكاية قبل النوم،
ومن الليل الطويل غدًا لا بد أن يجيء.
نعم، للبثّ دوره، وللحقيقة أهميتها،
لكن متى نعيد النظر في الطريقة؟
هل باتت صورة الطفل الشهيد تُعرض، ثم تُنسى، كأنها جزء من روتين الأخبار؟
هل فقدنا الإحساس إلى هذا الحد؟
الألم، حين يتكرر، لا يُشفى — بل يُبتذل.
وهذا أسوأ ما قد يحدث لمأساةٍ عظيمة كغزّة: أن تصبح "معتادة"،
أن تتحوّل إلى ديكورٍ ثابت في نشرات العالم،
أن تصبح القذيفة مشهدًا مألوفًا، والدم مألوفًا، والخراب خلفية لا تثير حتى شهقة.
أقول كفى، لا بمعنى التوقف عن تغطية الكارثة،
بل بمعنى البحث عن معنى جديد للصوت.
عن طريقة لا تستهلك الحقيقة، بل تُحرّكها.
عن نقلٍ لا يُعيد فقط مشاهد القصف، بل يفتح الأسئلة الكبرى:
لماذا؟ إلى متى؟ وأين البشر من كل هذا؟
غزة لا تطلب منّا أن ننقل وجعها،
بل أن نحمله. أن نعيشه. أن نحوله من مادة إعلامية إلى موقف أخلاقي.
الدم الذي يُسفك هناك لا يحتاج إلى تعليق،
بل إلى فعل.
إلى وعيٍ لا يخبو بعد انتهاء التقرير،
ولا يصمت بعد انطفاء الشاشة.
غزّة لا تموت.
بل تُولد من جديد في كل طفلٍ ينجو،
وفي كل روحٍ ترفض أن تعتاد هذا الجحيم.
هي لا تريد رثاءً، بل عدالة.
لا تريد نظرات شفقة، بل قلوبًا حية.
لا تريد الكاميرا، بل الحقيقة التي تغيّر.
وغزة لا تزال تُنجب أمثال "آمَل"...
التي تمشي فوق الركام، وتحمل في عينيها فجرًا لا يقصف،
وأملًا لا يُقتل،
وغدًا لا يُغتال.
فليكن الصوت الذي نرفعه لأجلها اليوم،
هو الصدى الذي يُربّي جيلاً لا يعتاد على الظلم،
ولا يسكت عن المجازر،
ولا يرى في فلسطين "قضية"، بل شرفًا... وواجبًا... وروحًا لا تموت.