لكي نعود مقصدا سياحيا عالميا جاذبا كما كنا، وقبل أن نصبح من الماضي
أ.د. محمد الفرجات
24-12-2025 05:02 PM
لماذا لم تتعافَ بعد حرب غزة؟ وكيف ننقذ أحد أعمدة الاقتصاد الوطني؟
السياحة… أكثر من قطاع، إنها شريان اقتصاد وسيادة، ويشكّل القطاع السياحي في الأردن أحد أهم أعمدة الاقتصاد الوطني، ليس بوصفه نشاطًا ترفيهيًا، بل كقطاع منتِج للعملة الصعبة، مولّد لفرص العمل، ومحرك لسلسلة طويلة من القطاعات المرتبطة به.
بالأرقام:
يساهم القطاع السياحي بما يقارب 12–14% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل مباشر وغير مباشر.
يوفر أكثر من 55 ألف فرصة عمل مباشرة، ونحو ضعف هذا الرقم بشكل غير مباشر في النقل، الحرف، الزراعة، الغذاء، والخدمات.
يضخ سنويًا ما يزيد عن 5 مليارات دولار من العملات الأجنبية في الاقتصاد الأردني في السنوات الجيدة.
كل دينار سياحي يُنفق يولّد سلسلة فائدة اقتصادية تمتد من الفندق إلى سائق الحافلة، ومن المطعم إلى المزارع والحِرَفي في الأطراف.
ومع ذلك، وبعد مرور أشهر على انتهاء حرب غزة وعودة الهدوء النسبي للإقليم، ما تزال السياحة في الأردن تعاني من ركود حاد وغير مبرر زمنيًا، يهدد منشآت، وظائف، واستثمارات، ويطرح سؤالًا خطيرًا:
لماذا لم تتعافَ السياحة الأردنية؟ وهل المشكلة خارجية فقط… أم داخلية أيضًا؟
أولًا: الأسباب الحقيقية لاستمرار تراجع السياحة
1. الصورة الذهنية السلبية: الأردن يُعاقَب نفسيًا لا أمنيًا،
فما يزال الأردن يُصنَّف ذهنيًا لدى السائح الأجنبي كجزء من “منطقة نزاع”، رغم:
استقراره الأمني العالي.
عدم تأثره المباشر بالحرب.
استمرار الحياة الطبيعية فيه.
الخلل ليس أمنيًا، بل إعلامي وتسويقي:
الإعلام العالمي لم يُحدّث روايته بعد الحرب.
لا يوجد تمييز واضح بين الأردن ومناطق الصراع الفعلي.
غياب حملة دولية رسمية تعيد تقديم الأردن كـ وجهة آمنة، مفتوحة، ومستقرة.
2. ضعف التسويق السياحي الدولي بعد الأزمة:
توقفت الحملات الترويجية خلال الحرب، لكن الخطير هو:
عدم عودتها بقوة بعد انتهائها.
الاستمرار في أدوات تقليدية في عالم يعتمد اليوم على:
المؤثرين العالميين.
المنصات الرقمية.
التجارب الافتراضية.
التسويق الموجّه حسب كل سوق (أوروبا، آسيا، الخليج).
السائح اليوم لا ينتظر إعلانًا… بل قصة مقنعة وتجربة مُلهمة.
3. كلفة السفر المرتفعة إلى الأردن:
أسعار تذاكر الطيران إلى الأردن أعلى من وجهات منافسة.
محدودية رحلات الطيران منخفض التكلفة.
ارتفاع كلف الإقامة والخدمات دون تحسن موازٍ في القيمة السياحية المقدَّمة.
في زمن التضخم العالمي، السائح أصبح أكثر حساسية للسعر.
4. تراجع ثقة منظمي الرحلات العالميين:
العديد من منظمي الرحلات لم يُعيدوا الأردن إلى برامجهم.
التخوف من الإلغاءات المفاجئة وضعف الطلب.
غياب تواصل رسمي مباشر ومنظم من الجهات الأردنية مع هؤلاء الشركاء.
الثقة لا تعود تلقائيًا… بل تُبنى بخطاب رسمي وضمانات واضحة.
5. غياب خطة تعافٍ سياحي وطنية، وحتى اللحظة:
لا توجد خطة وطنية معلنة بجدول زمني واضح.
ضعف التنسيق الممنهج بين:
وزارة السياحة
هيئة تنشيط السياحة
القطاع الخاص
تُركت المنشآت السياحية تواجه الأزمة منفردة.
6. الضغوط الاقتصادية العالمية
التضخم قلّص إنفاق الأسر على السفر.
السائح يفضّل وجهات:
أقل كلفة
أقصر زمن سفر
أوضح من حيث الأمان
... وهذا يتطلب منافسة ذكية لا انتظارًا سلبيًا.
ثانيًا: الآثار الخطيرة لاستمرار الركود:
خسائر مالية متراكمة للفنادق والمنشآت.
تسريح أو تعليق عقود آلاف العاملين.
تراجع الاستثمارات السياحية الجديدة.
تهديد السياحة المجتمعية وسياحة الأطراف: البترا، وادي رم، الشوبك، الطفيلة.
انتقال الأزمة من سياحة إلى مشكلة اجتماعية وتنموية.
ثالثًا: الحلول الشاملة… من إدارة الأزمة إلى صناعة التعافي:
1. استعادة الصورة الذهنية الدولية...
إطلاق حملة دولية عاجلة بعنوان واضح: “Jordan is Safe – Jordan is Open”
تشمل:
إعلامًا دوليًا مؤثرًا.
مؤثرين عالميين حقيقيين لا دعائيين.
دورًا نشطًا للسفارات.
دعوة صحفيين ومدونين لزيارات ميدانية منظمة.
2. تحفيز الطيران وخفض الكلف
دعم حكومي مباشر للطيران منخفض التكلفة.
فتح مسارات جديدة من مدن أوروبية وآسيوية.
حزم سفر متكاملة: (طيران + فندق + تجربة).
3. دعم المنشآت والعاملين
إعفاءات ضريبية مؤقتة.
تخفيض رسوم التراخيص والطاقة.
برامج دعم أجور للحفاظ على الوظائف.
4. إعادة بناء الثقة مع منظمي الرحلات
جولات ترويجية رسمية للأسواق الرئيسية.
شراكات مع شركات السياحة الكبرى.
ضمانات حكومية واضحة لإدارة الطوارئ.
5. تنويع المنتج السياحي
تعزيز:
السياحة البيئية.
السياحة الجيولوجية.
السياحة العلاجية.
سياحة المؤتمرات.
وربط السياحة بـ الاستدامة والتغير المناخي، وهو عامل جذب عالمي متصاعد.
6. خطة تعافٍ وطنية معلنة
خطة زمنية واضحة (2025–2027).
مؤشرات أداء قابلة للقياس.
إشراك الجامعات والخبراء.
شفافية في إعلان النتائج.
وبالنهاية، فالسياحة لا تنتظر… إما قرار أو خسارة... إن استمرار ركود السياحة في الأردن ليس قدرًا، بل نتيجة تداخل عوامل نفسية وتسويقية واقتصادية وإدارية.
لدينا الآن فريق رائع، وزير سياحة قوي وبخبرة طويلة، وأمين عام أيضا متمرس وجاء من هيئة تنشيط السياحة، ومدير عام هيئة تنشيط سياحة بخبرة دولية. ونتأمل أن يعود القطاع إلى سابق عهده.
ويمتلك الأردن من المقومات التاريخية والطبيعية والأمنية ما يؤهله للعودة السريعة إلى الخارطة السياحية العالمية، لكن بشرط واحد:
الانتقال من الانتظار إلى القرار،
ومن الإدارة التقليدية إلى إدارة الأزمات والفرص.
السياحة لا تُستعاد بالصبر…
بل بالرؤية، والجرأة، والفعل المنظم.