facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




ستونر: حين يزهر الصمت وتنتصر المعرفة


أ. د. هاني الضمور
26-07-2025 11:55 AM

في زمنٍ باتت فيه الجامعات أشبه بالمؤسسات التجارية، تحكمها لغة التصنيفات والأرقام الباردة، تطل علينا رواية ستونر للكاتب الأمريكي جون ويليامز كصرخة صامتة تعيد تعريف معنى التعليم. ليست ستونر حكاية رجل أكاديمي عادي فحسب، بل هي مرآة لجوهر التعليم الذي فقده الكثيرون وسط سباق الشهرة والمكاسب المادية. ستونر، أستاذ الأدب الإنجليزي البسيط، لم يكن نجمًا يلمع في المؤتمرات، ولم يكتب عشرات الأبحاث لتملأ المجلات المفهرسة، لكنه كان يحمل ما هو أعظم من كل ذلك: إيمانًا راسخًا بأن التعليم رسالة تتجاوز كل الألقاب.

ويليام ستونر لم يكن يسعى وراء الاعتراف، ولم يحاول يومًا أن يغازل السلطة أو يركض وراء الأضواء. عاش حياته الأكاديمية بهدوء، ووقف ثابتًا أمام الانحدارات الأخلاقية والمؤسسية التي تحيط به، وكأنه يهمس للعالم أن قوة المعلم ليست في عدد الجوائز التي يحصدها، بل في صدقه، وفي أثره الذي يتركه في عقول طلابه. لقد رفض أن يساوم على قناعاته، حتى عندما دفع ثمن ذلك من مكانته المهنية ومن سعادته الشخصية. لكن هذا الصمت لم يكن ضعفًا، بل كان نوعًا من البطولة التي قلما نجدها في عالم بات يقدس المظاهر أكثر من الجوهر.

الرواية ترينا الجانب الإيجابي الخفي في مثل هذه الشخصيات. ستونر لم يكن مهتمًا بأن يُصفق له أحد، بل كان همه أن ينقل المعرفة بحب، وأن يعلّم بصدق، وأن يبقى مخلصًا للمهنة التي أحبها حتى آخر يوم في حياته. هذا النوع من الالتزام العميق يذكّرنا بأن النجاح لا يُقاس دائمًا بالتصفيق ولا بعدد المقالات المنشورة، بل بالأثر الحقيقي الذي يتركه المعلم في نفوس من يعلّمهم. ستونر، على الرغم من كل العواصف التي مر بها، لم يفقد إيمانه بالكلمة، ولم يسمح للنظام الأكاديمي البيروقراطي أن يسرق منه روح التعليم الحقيقية.

في عالم اليوم، قد يعتبر البعض ستونر خاسرًا، لأنه لم يتسلق سلالم الشهرة، ولم يسعَ وراء مكاسب زائفة. لكن الحقيقة أن مثل هذا الثبات، وهذه القدرة على مقاومة التيار السائد، هي أسمى أشكال الانتصار. لقد اختار أن يكون صادقًا مع نفسه، وهذا خيار لا يملكه الكثيرون. الرواية تقدم لنا درسًا مؤثرًا: أن البطولة الحقيقية في التعليم ليست في الوصول إلى القمة، بل في البقاء على الطريق، مهما كان صعبًا، دون أن نفقد هويتنا وقيمنا.

ستونر ليس بطلًا أسطوريًا، لكنه نموذج للأستاذ الذي لا يرى في التعليم مجرد وظيفة، بل رسالة إنسانية. هو تذكير بأن الجامعة ليست مضمار سباق للمناصب، بل فضاء لزرع القيم والمعرفة. كل سطر في الرواية يلمّح إلى هذه الحقيقة، ويجعل القارئ يتأمل في سؤال مهم: ما هو النجاح الأكاديمي الحقيقي؟ هل يُقاس بعدد الأبحاث المنشورة، أم بعمق الأثر الذي يتركه المعلم في حياة طلابه؟

في واقعنا الحالي، حيث طغت لغة الأرقام والمؤشرات، نحتاج أن نرى الوجه الآخر الإيجابي الذي تقدمه ستونر. فهناك دائمًا معلم صامت، يعمل من قلبه، لا يبحث عن الألقاب ولا عن الأضواء، لكنه يغيّر حياة طلابه بصبره وصدقه. في عالم مليء بالمظاهر، يقدم ستونر نموذجًا للمعلم الذي ينتصر بالصمت، لأنه يعرف أن القيم الحقيقية لا تحتاج إلى صخب كي تبرهن على وجودها.

الرواية هي رسالة مفتوحة لكل من اختار أن يسلك طريق التعليم: كن مثل ستونر، مخلصًا، صبورًا، واثقًا أن ما تزرعه اليوم سيبقى أثره في المستقبل، حتى لو لم يصفق لك أحد. ستونر يقول لنا ببساطة إن التعليم ليس سباقًا نحو الألقاب، بل رحلة نحو الحقيقة. وفي هذه الرحلة، الانتصار الأكبر ليس في أن تكون الأبرز، بل أن تكون الأكثر صدقًا مع نفسك ومع رسالتك.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :