فيروز ليست مجرد مطربة، بل هي ذاكرة أمّة، رمز للشرق الجميل الذي يختزن عبق الأصالة وسحر الموسيقى. حين نذكر الصباح، نذكر صوتها الذي يصاحبنا مع فنجان القهوة، وكأنها صلاة حبٍ ووطن. منذ عقود، بقيت فيروز واجهةً مشرقة للعالم العربي، صوتًا نقيًا يعبر فوق الانقسامات والحدود، لتصبح لغةً مشتركة بين الأجيال.
منذ بداياتها مع الأخوين رحباني، وضعت فيروز حجر الأساس لمدرسة موسيقية لا تشبه غيرها، امتزجت فيها الأصالة الشرقية بروح التجديد. أغانيها ليست مجرد ألحان وكلمات، بل قصائد تتغلغل في الوجدان، من "زهرة المدائن" إلى "بحبك يا لبنان"، ومن "الأرض لنا" إلى "كان عنا طاحونه". كل كلمة كانت رسالة حب وسلام، وكل لحن كان نافذة على عالم أرحب.
لم يلقبها الشعراء والمحبون بـ"جارة القمر" عبثًا، فقد كانت دائمًا في مكانٍ أعلى من الضجيج، فوق السياسة والصراعات، في فضاءٍ لا تصل إليه سوى الأرواح النقية. صوتها كان وطنًا صغيرًا نحتمي به في كل انكسار، ونفرح معه في كل أمل.
زياد الرحباني، ابنها ورفيق إرثها الذي فارقنا البارحة، لم يكن مجرد استمرارٍ لتاريخ فيروز، بل كان تجديدًا فيه. قدّم موسيقى جريئة، وأدخل على الأغنية الشرقية روحًا عصرية، لكن ظلّ مرتبطًا بجذرها الأول، بجارة القمر. ومع كل تجربة موسيقية خاضها، كان الحنين إلى صوت فيروز حاضرًا، كأيقونة لا تتكرر.
حب فيروز للأردن ليس خافيًا، وزياراتها التاريخية تشهد على ذلك، خصوصًا رحلتها إلى العقبة برفقة جلالة الملك الحسين بن طلال، حيث جمعت الموسيقى والمجد في مشهد واحد. الأردن كان دائمًا يستقبل فيروز كما يستقبل الشمس، يزين بها تاريخه المجيد.
اليوم، نحن نكتب هذه السطور في وقتٍ يحيط بلبنان الحزن على غياب زياد ، نجل فيروز و امتدادها ، نبعث بتعزيتنا الصادقة لجارة القمر، ولسيدة الصباحات التي منحتنا الأمل. لبنان مدين لها، والعرب جميعًا مدينون لها، لأنها لم تكن فقط صوتًا يغني، بل كانت وجدانًا يحيا فينا.
سنظل نقولها كل صباح: شكرًا فيروز… لأنك علمتِنا أن الموسيقى وطن، وأن الجمال يمكن أن يكون مقاومة، وأن الشرق، مهما تعبت ألوانه، سيبقى له وجه مضيء اسمه فيروز.