يشهد قطاع التعليم المدرسي في الأردن منعطفًا تاريخيًا بعد أكثر من عشرين عامًا من الاستثمار المنهجي في البنية التحتية الرقمية (Digital Infrastructure). فقد ربط برنامج الشبكة الوطنية للألياف الضوئية آلاف المدارس بشبكة إنترنت فائقة السرعة، في حين تجاوز عدد الهويات الرقمية (Digital IDs) المفعَّلة عبر تطبيق «سند» 1.6 مليون هوية، لتُشكّل بذلك قاعدة وطنية موحَّدة وآمنة للدخول إلى الخدمات العامة. واعتمدت وزارة التربية والتعليم منصة «نور سبيس» للصفوف الدنيا، و«مايكروسوفت تيمز» (Microsoft Teams) للصفوف العليا، فيما وفَّر المحتوى المسجَّل على منصة «درسك» استمرارية التعلّم خلال جائحة كوفيد-19. مع ذلك، تُظهر مراجعات الوزارة أنّ هذه الجهود، رغم أهميتها، لا تزال بحاجة إلى النقلة النوعية الضرورية من رقمنة المحتوى نحو تعليمٍ ذكيٍّ وشخصيٍّ مدعومٍ بالذكاء الاصطناعي (AI-Personalized Learning)، يُشغَّل محليًّا داخل المدارس ويحافظ على خصوصية الطلبة.

ولتحقيق ذلك، يجب تبنّي خارطة طريق واضحة تهدف إلى توحيد المنصات التعليمية الحالية تحت مظلة وطنية مفتوحة المصدر تعتمد نظام «مودل» (Moodle)، بواجهة عربية متكاملة وارتباط مباشر بالمناهج الأردنية. ويُمكن دمج أدوات تحليل (Real-time Analytics Tools) في هذه المنصة، لتراقب أداء الطلبة وتولّد توصيات تعليمية فورية، ممّا يمكّن المعلّم من معالجة الفروقات الفردية أثناء الحصّة، بدلًا من تأجيلها إلى ما بعد الامتحانات. ومن شأن هذا التوحيد أن يضع حدًّا للازدواجية في التطوير والدعم الفنّي ، ويضبط الإنفاق على تراخيص البرمجيات المتوازية (Software Licensing).

وبالإضافة إلى ذلك ، يمكن أيضًا إنشاء «المساعد الذكي» (AI Assistant)، مدمج في المنصة ويعتمد نموذجًا لغويًا مُدرَّبًا محليًّا على المحتوى الأردني، ويُشغَّل على خوادم مدرسية تعمل دون الحاجة إلى اتصال خارجي بالإنترنت، مما يتيح للطلبة طرح أسئلتهم والحصول على شروحات وتمارين إضافية بصورة فورية. وعلى الجانب الآخر، ولضمان مشاركة الأسرة بفعالية ، يجب تطوير تطبيق لأولياء الأمور (Mobile App)، يرتبط بحساباتهم في «سند»، ليعرض لهم الحضور والواجبات والإنجازات لحظيًّا، مع إرسال تنبيهات فورية (Notifications) تُبقي الأسرة شريكًا فعّالًا في العملية التعليمية اليومية.

ومن الأمور المقترحة أيضًا لتعزيز إتقان الطلبة للمهارات الرقمية والعلمية، اعتماد نظام شارات إلكترونية (Digital Badges)، تُولَّد تلقائيًّا عند اجتياز الطلبة لمستويات محددة؛ إذ تُمنح لهم شارات مثل «شارة البرمجة الأساسية» أو «شارة الكفاءة الرياضية» ، بحيث تُحفظ بأمان في سجلّاتهم الرقمية (Digital Records)، الأمر الذي يسهّل الاعتراف بها لاحقًا لدى الجامعات وأرباب العمل. و بالمثل، تتيح قاعدة البيانات الناتجة عن ذلك بناء ملف تعلّمي ثري ، يدعم سياسات القبول الجامعي والمنح الدراسية بناءً على الكفايات وليس على المعدّل وحده.

وللعمل على تطبيق هذه الخارطة و المقترحات المشمولة ، يجب البدء بالتنفيذ بشكل تدريجي، ابتداءً بإطلاق مرحلة تجريبية في عشر مدارس مختارة بعناية وفقًا لمعايير جغرافية واجتماعية، ترافقها دورات تدريبية مكثّفة للمعلمين ، مع تقديم دعمٍ تقني ميداني، يُراجَع أداؤه كل ستة أشهر قبل التوسّع على مستوى المملكة. وبالتوازي مع ذلك، تعمل وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة على استكمال ربط المدارس المتبقية بشبكة الألياف الضوئية، مع إطلاق بوابة تمويل تنافسية (Competitive Funding Portal) للشركات الناشئة الأردنية (Jordanian Startups)، لتطوير تطبيقات تعليمية متخصصة ، تُدمج لاحقًا في المنصة تحت إشراف تربوي مباشر، بما يضمن استدامة الابتكار ومواءمته لمعايير الأمان التربوي.

وفي الإتجاه الاخر و بالنسبةللسياق التشريعي، لا بدّ من تحديث سياسة حماية البيانات التعليمية (Data Protection Policy) لتتلاءم مع متطلبات نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية، مع اعتماد بروتوكولات واضحة لتخزين البيانات ومعالجتها. ولتعزيز ذلك، يمكن تشكيل مجلس خبراء يضم تربويين وتقنيين لصياغة معايير أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Guidelines) في التعليم، بحيث تُطبَّق مبادئ الشفافية وعدم التحيّز منذ البداية.

ختامًا، فإنّ تطبيق الحكومة لهذه الخطوات وفق جدولٍ زمني ، سيُمكّن الأردن من الانتقال من مرحلة رقمنة المناهج إلى تعليمٍ ذكيٍّ يستجيب لحاجات كل طالب، ويوطّن تقنيات الذكاء الاصطناعي في المدارس بطريقة آمنة تحافظ على الخصوصية. عندها ستتحوّل المدارس الأردنية إلى مختبرات ابتكار تُخرِّج جيلًا مُسلَّحًا بالمهارات المطلوبة لسوق العمل الرقمي، وتعزّز مكانة المملكة إقليميًا كرائدٍ في مجال التعليم المدعوم بالذكاء الاصطناعي.