facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




خرفان بانورج .. مرآة عقلانية لواقع الإعلام المعاصر


أ. د. هاني الضمور
30-07-2025 02:04 AM

حين كتب فرانسوا رابليه حكاية “خرفان بانورج”، لم يكن يدرك أن هذه الصورة الرمزية ستجد صدى حقيقياً في سلوكيات الأفراد والمؤسسات في عصرنا الحديث، وبالأخص في المجال الإعلامي. لقد تحولت الحكاية من عمل أدبي ساخر إلى تشخيص دقيق لظاهرة الانقياد الجماعي، التي باتت ملمحاً واضحاً في الطريقة التي نتلقى بها المعلومات اليوم.

الإعلام المعاصر، لا سيما الإعلام الرقمي، تجاوز دوره التقليدي كوسيط ناقل للمعلومة، ليصبح – في كثير من الأحيان – أداة مؤثرة في تشكيل الرأي العام وتوجيهه، وأحياناً تضليله. تنتشر الأخبار أحياناً بسرعة غير مسبوقة، ويكفي أن تبادر منصة مؤثرة بنشر معلومة مثيرة حتى تتسابق بقية المنصات إلى تكرارها دون تحقق، في مشهد يُذكّر بسلوك القطيع الذي يتبع أول من قفز دون أن يسأل لماذا.

ما نواجهه اليوم لا يتعلق فقط بسرعة تداول الأخبار، بل بطريقة تلقينا لها. في الأزمات، تبرز بشكل خاص مظاهر التفاعل العاطفي والانفعالي على حساب التحليل والتمحيص. تنتشر القصص، وتنهال التعليقات، وتُبنى الاستنتاجات بناءً على روايات غير موثقة. نادراً ما يُطرح السؤال الجوهري: ما مصدر هذه المعلومة؟ وما دوافع نشرها؟ وفي خضم هذا الزخم، يغيب التفكير النقدي، ويتحول الجمهور إلى جمهور منقاد لا ناقد.

الأمر لا يقتصر على الجمهور فقط. المؤسسات الإعلامية نفسها باتت، في كثير من الحالات، جزءاً من هذا الانقياد. غلب منطق “السبق” على “التحقق”، وأصبحت المعايير التجارية – مثل نسب المشاهدة وتصدر الترند – أولوية تتقدم على معايير الدقة والمصداقية. وغدا الإعلام مرآة لما يرغب فيه الجمهور، لا لما يحتاجه من معرفة أو توعية.

هذه الظاهرة تكشف عن أزمة أعمق من مجرد خلل مهني؛ إنها أزمة وعي. حين يتعامل الجمهور مع المعلومة على أساس مدى انتشارها لا على أساس مصداقيتها، فإنه يعيد إنتاج نموذج “خرفان بانورج” بطريقة جديدة. والأخطر من ذلك أن كثيراً من المستهلكين لا يدركون أنهم ينزلقون إلى بحر من التضليل، معتقدين أنهم يقتربون من الحقيقة.

ما نحتاجه اليوم هو إعلام يتحلى بالشجاعة، لا ينجرف وراء الموجة لمجرد أنه من السهل اللحاق بها. إعلام يدرك أن دوره ليس فقط تكرار ما يُقال، بل التحقق منه، ومساءلته، وطرحه للنقاش العام بعقلانية. وبالمثل، نحن بحاجة إلى جمهور واعٍ، لا يكتفي بالاستهلاك السلبي للمعلومات، بل يمتلك أدوات النقد والتشكيك البنّاء.

إن الصحافة الحقيقية هي التي تُعزز التفكير المستقل، لا التي تكرّس الانقياد. هي التي تثير الأسئلة، لا التي تكتفي بتكرار الإجابات الجاهزة. لكنّ جزءاً كبيراً من المشهد الإعلامي اليوم فضل الطريق الأسهل: مسايرة الجمهور بدل توعيته، والتماهي مع الرائج بدل الوقوف في صف الحقيقة.

الدرس الأهم من قصة “خرفان بانورج” ليس في مشهد السقوط الجماعي، بل في غياب السؤال الأول: لماذا قفز الخروف الأول؟ إن استعادة هذا السؤال النقدي هو ما ينقصنا في عصر الإعلام المتسارع. الحقيقة ليست دائماً في أول ما يُنشر أو ما يَلفت الأنظار، بل غالباً ما تكون في ما يتطلب جهداً وصبراً وعقلاً ناقداً.

في نهاية المطاف، التحدي ليس في الإعلام ذاته، بل في كيفية تعاملنا معه. إذا لم نعمل على تعزيز ثقافة التحقق والتفكير النقدي، فإننا نجازف بالوقوع – كأفراد ومجتمعات – في فخ التضليل، ونحن نظن أننا نعيش في زمن المعرفة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :