التعبير المسؤول في الأزمات: دعوة ملكية لصون الوحدة الوطنية
أ. د. هاني الضمور
31-07-2025 01:40 AM
في وقتٍ يفيض فيه الواقع بالألم، وتختلط فيه المشاعر بالغضب، ويغدو النقاش العام أكثر احتقانًا من أي وقت مضى، أطلّ الملك عبد الله الثاني بكلمة تختصر الموقف وتضع الأمور في نصابها، خلال لقائه نخبة من الشخصيات الإعلامية في قصر الحسينية. كانت كلماته واضحة، حاسمة، لكنها في الوقت نفسه إنسانية وعقلانية، عندما قال:
“علينا احترام جميع وجهات النظر واختلاف أساليب التعبير عن الحزن، دون اتهام أو تشهير، وحدتنا الوطنية المتينة فوق كل خلاف.”
هذا التصريح لم يكن عاديًا، ولم يأتِ من فراغ، بل عكس إدراكًا عميقًا لطبيعة اللحظة الحرجة التي يعيشها الشارع الأردني، والمتأثر بشدة بما يجري في الإقليم، خصوصًا العدوان المستمر على غزة. فالحزن مشروع، والوجع مفهوم، لكن كيف نُعبّر عن ذلك دون أن نُقوّض أسس تماسكنا الاجتماعي؟ هذا هو السؤال الذي جاءت كلمات الملك لتجيب عليه، بهدوء القائد الذي يرى الصورة كاملة.
المُلفت أن الملك لم يُصادر الحق في التعبير، بل شرّعه بصيغة راقية تحمي الناس من أنفسهم، وتحمي المجتمع من الانزلاق نحو لغة الاتهام والتجريح. عبّر جلالته عن قلقه من تحوّل بعض أساليب التعبير إلى أدوات للانقسام، لا للتماسك، حين يُستبدل الحزن الصادق بالتجييش، والنقد البنّاء بالتشهير.
حديث جلالة الملك موجّه أولًا إلى الضمير الوطني. فلا وطن يقوى إذا تصدّع من داخله، ولا مجتمع ينهض إن استُهلكت طاقاته في الخصومات. من هنا جاءت رسالته كتحذير لطيف لكنه صارم، بأن الحرية لا تعني الفوضى، وأن الرأي لا يُستخدم مطيّة لتخوين الآخر أو تسفيه مواقفه. فالمشهد الأردني، في ظل الأزمات المحيطة، يحتاج إلى أكثر من مجرد انفعالات؛ يحتاج إلى توازن، إلى خطاب عقل، وإلى وعي بأن الخلاف يجب ألا يكون مدخلًا للفرقة.
اختار الملك أن يُخاطب الإعلاميين، لا عبثًا، بل إيمانًا بأن الكلمة تصنع واقعًا. فالإعلام، كما قال مرارًا، شريك في بناء الدولة، لكنه قد يكون كذلك سببًا في تأزيمها إذا غاب عنه الضمير المهني. وفي زمن المنصات المفتوحة، لم يعد الإعلام الرسمي وحده مسؤولًا، بل كل من يملك منبرًا أو متابعين بات شريكًا في صياغة المزاج العام.
ما تضمنته هذه الرسالة الملكية هو نداء وطني بامتياز، يدعو الجميع لإعادة النظر في الطريقة التي نتحدث بها، نختلف بها، ونُعبّر بها. ليس المطلوب توحيد الآراء، بل توحيد احترامنا لبعضنا. ليس المطلوب كتم الأصوات، بل تهذيبها لتكون أدوات بناء لا أدوات هدم.
فالوحدة الوطنية ليست حالة افتراضية، بل ممارسة يومية تتجلى في طريقة تعاملنا مع بعضنا، في قدرتنا على التسامح، على النقد دون خصومة، وعلى الاختلاف دون تخوين.
ولعل في قول جلالته: “وحدتنا الوطنية المتينة فوق كل خلاف”، تكثيف لمعنى الدولة التي لا تخاف من تعدد الآراء، لكنها لا تتسامح مع تمزيق النسيج الداخلي. دولة تفتح المجال للنقاش، لكنها تضع حدودًا واضحة بين حرية التعبير وحرية الإساءة، بين الرأي والاجتزاء.
هذا القول الملكي يجب أن لا يُقرأ كمجرد تصريح سياسي، بل كبوصلة أخلاقية ووطنية تُوجّه الأردنيين جميعًا، من مسؤولين ومواطنين، إعلاميين ومؤثرين، ليعودوا إلى أصل الفكرة: أن الأردن ليس مجرد جغرافيا، بل عقد اجتماعي قائم على الثقة، والتوازن، والاحترام.
نحن نعيش في زمن حساس، حيث تتحوّل الكلمة بسرعة إلى سلاح، وتنتشر الإشاعة أسرع من الحقيقة. وهنا يأتي دور كل فرد في المجتمع، في أن يُعيد حساباته، ويُسائل ضميره قبل أن يكتب أو ينشر أو يُعلّق. لأن الحفاظ على وحدة البلد لا يكون فقط من خلال الإجراءات الأمنية أو الخطابات الرسمية، بل من خلال وعي جماعي مشترك.
الملك عبد الله الثاني لم يُقدّم خطابًا موجهًا لفئة دون أخرى، بل وجّه نداءً للأردنيين جميعًا، بأن يبقوا على قدر المسؤولية، وأن يختاروا وطنهم في كل مرة يُخيّرون فيها بين الغضب والانتماء.
وفي النهاية، وحدتنا ليست خيارًا، بل ضرورة. وهي، كما قال الملك، فوق كل خلاف.