عالم كبير: حين تعبر المعرفة الحدود وتعيد الجامعات تعريف رسالتها
أ. د. هاني الضمور
03-08-2025 12:16 AM
في زمن العولمة الرقمية والتواصل المتسارع، لم يعد التعليم العالي محصورًا في الجغرافيا أو في قاعات الدرس التقليدية. لقد أصبح فضاءً عالميًا تتحرك فيه المعرفة بسرعة، ويجد فيه الأساتذة والطلاب أنفسهم في شبكة واسعة من المؤتمرات، الشراكات، وبرامج التبادل. هذا التحول، وإن لم يخلُ من تحديات، يحمل في جوهره فرصًا ثمينة لإعادة تعريف دور الجامعة كفاعل حضاري وإنساني على مستوى العالم.
خلافًا لما يُشاع من أن الجامعات الحديثة قد فقدت رسالتها وتحولت إلى مجرد منصات استعراضية، نجد أن واقع التعليم العالي اليوم أكثر تعقيدًا وتنوعًا مما يُختصر في السخرية من «السفر الأكاديمي» أو من «مؤتمرات الفنادق». فالتنقل الأكاديمي، حين يُمارس بوعي، ليس شكليًا، بل هو وسيلة لنقل المعرفة، تبادل الخبرات، وإعادة توطين الأفكار بين الثقافات.
في هذا «العالم الكبير»، لم تعد الجامعة مجرد بناية تضم قاعات ومحاضرات، بل أصبحت مؤسسة ذات بعد عالمي، تُنتج معرفة تتجاوز الحدود، وتُخاطب قضايا مشتركة، مثل التغير المناخي، العدالة الاجتماعية، الذكاء الاصطناعي، وحقوق الإنسان. أصبح الأستاذ الجامعي اليوم، في كثير من الحالات، ليس موظفًا محليًا فحسب، بل باحثًا متنقلاً يحمل فكره إلى محافل متعددة، ويعود برؤية أغنى وأكثر شمولًا.
صحيح أن الجامعات تسعى لتحسين ترتيبها في التصنيفات الدولية، لكن لا يجب أن يُختزل هذا السعي في أنه رغبة نرجسية. التصنيفات، رغم ما يعتريها من جدل، دفعت كثيرًا من المؤسسات إلى تطوير برامجها، تحسين جودة أبحاثها، والاهتمام بتجربة الطالب. في كثير من الدول، ساعد التدويل الأكاديمي على رفع مستوى التعليم وتحديث المناهج، وربط الجامعات بسوق العمل، والتحديات الواقعية التي يواجهها المجتمع.
أما المؤتمرات الأكاديمية، فهي ليست بالضرورة «حفلات رمزية»، بل هي في جوهرها منصات للحوار، ومختبرات لبلورة الأفكار وتطوير المفاهيم. كثير من الشراكات البحثية الكبرى بدأت من ورقة عُرضت في مؤتمر، أو نقاش في ندوة. قد يتكرر بعض المحتوى، وقد تنشأ ظواهر سلبية، لكن لا يمكن تجاهل القيمة العلمية والإنسانية لهذه اللقاءات، خصوصًا حين تُدار بكفاءة ومسؤولية.
ومن جهة الطالب، لم يعد المتعلم اليوم مستهلكًا سلبيًا للمعلومة، بل شريكًا فاعلًا في إنتاج المعرفة، خاصة في البيئات الجامعية التي تدمج البحث بالتدريس. لقد أتاحت العولمة الأكاديمية للطلبة فرصًا للتبادل، والانخراط في أبحاث دولية، والمشاركة في مجتمعات معرفية متعددة الثقافات. هذه التجربة تسهم في تشكيل وعي نقدي وإنساني، لا يتوافر في النظم المنغلقة.
أما عن الأستاذ الجامعي، فإن حضوره في المؤتمرات أو مشاركته في المشاريع الدولية لا يعني بالضرورة تخليه عن دوره التربوي. بل إن هذا الانفتاح غالبًا ما يعود على العملية التعليمية بمناهج أكثر حداثة، وأمثلة أكثر ارتباطًا بالواقع، وأسلوب أكثر تفاعلًا مع عقل الطالب وأسئلته.
بلا شك، هناك تحديات حقيقية تهدد رسالة الجامعة: الميل نحو الشكل على حساب الجوهر، تضخم البيروقراطية الأكاديمية، والانشغال أحيانًا بالمظاهر الخارجية أكثر من التأثير المعرفي. لكن تبقى هذه ظواهر قابلة للتصحيح، لا سمات حتمية للمستقبل. المهم هو وعي المؤسسة الجامعية بذاتها، وتوازنها بين العالمية والانغراس في واقعها المحلي.
الجامعات لا تفقد معناها لأنها تسافر، بل قد تفقده إن توقفت عن طرح الأسئلة الكبرى. وما دامت تحتفظ بمركزية العقل، وتعمل على خدمة الإنسان، فإنها قادرة على التجدد، وعلى مقاومة التفاهة الرمزية.
في النهاية، يجب أن يُنظر إلى التعليم العالي كعملية معقدة تحاول التوفيق بين الجودة، التنافس، والرسالة الإنسانية. العولمة الأكاديمية لا تعني فقدان الهوية، بل يمكن أن تكون جسرًا لبنائها من جديد، بأدوات أوسع، ورؤية أشمل.
العالم قد يكون صغيرًا من حيث المسافة، لكنه كبير جدًا من حيث التحديات، والقضايا، والفرص. وفي هذا العالم، يمكن للجامعة أن تكون صوتًا لا صدى، ومنارة لا مجرد مبنى. يمكنها أن تُلهم الأستاذ والطالب معًا للسفر لا بالجسد فقط، بل بالفكر أيضًا.
وفي زمن تتسارع فيه الأسئلة أكثر من الأجوبة، تظل الجامعة بكل ما تحمله من تقاليد وتطلعات المكان الأنسب لزرع الشك الخلّاق، وغرس الأمل في عقل الإنسان.