الكرك: مئوية “الهيّة” .. ذاكرة الحرية ومجدُ الكرامة
أ. د. هاني الضمور
05-08-2025 11:24 AM
في جنوب البلاد، حيث الجبال تروي للريح حكايات الصبر، تطل الكرك على الزمن كشاهدةٍ حية على معنى الكرامة حين تكون أعلى من الجغرافيا، وأثقل من التاريخ. مدينة لا تتغنّى ببحرٍ ولا تخطب ودّ السياحة، لكنها تُدهشك إذا نطقت. لا لأن صوتها مرتفع، بل لأن ما تقوله يخرج من جراحٍ صلبة، ومن قلبٍ عارف أن المجد لا يُشترى، بل يُنتزع.
تمرّ اليوم مئة سنة على “الهِيّة”، تلك الانتفاضة التي كتبها أهل الكرك بدمهم وبصبرهم، لا طلبًا لامتياز، بل رفضًا للظلم، وموقفًا أخلاقيًا ضد استبدادٍ كان يُريد من الناس أن يصمتوا ويُطيعوا، فأجابته الكرك: “ما نطيع!”. قالها رجال القرى، وصدّقتها النساء، وحملتها البنادق، وحفرتها القلعة في جدرانها. لم تكن “الهيّة” انفجار غضب، بل شهادة مبكّرة على وعي جمعي، وعلى مشروع نهضوي يُشبه الأمة في حلمها الأول.
الكرك التي تمشي على صخر وتزرع الأمل في يباب، لطالما قدّمت لوجه الأمة وجهها الصلب. يكفي أن تذكر مؤتة، حتى يأتيك جعفر الطيار، مقطوع اليدين، طائرًا بجناحين. يكفي أن تمرّ بقلعتها، حتى يطلّ قدر المجالي، مشنوقًا لكنه منتصب كألف راية. الكرك لم تكن يومًا طرفًا، بل كانت دائمًا مركزًا للمعنى، وللموقف، وللأثر.
ومن بين أكثر مواقفها إنسانيةً وإلهامًا، يبرز اسم الشيخ إبراهيم الضمور وزوجته الشيخة عليا الضمور. قصةٌ تكاد تكون خارجة من ملحمة شعرية، لكنها حدثت فعلاً على أرض الكرك. حين احتمى الثائر الفلسطيني قاسم الأحمد، قائد ثورة نابلس، في بيت الشيخ إبراهيم، وطلبه العثمانيون، كان الخيار أمامه إما أن يسلّمه، أو يشهد إحراق أبنائه الاثنين. وكان القرار: “لا نخون الدخيل، ولو اشتعلت بنا النيران.” وهكذا، شاهد الوالدان فلذتي كبدهما يُحرقان أمامهما، لكن لم تهتزّ الراية. وعلى رماد الفقد، كتبت الكرك واحدة من أنبل صفحاتها: الكرامة لا تقبل المقايضة.
وتلك الحكاية لم تكن فقط شهادة على بطولةٍ نادرة، بل وثيقة تاريخية على العلاقة الأصيلة بين الأردن وفلسطين، والتي صيغت بالنار والدم والمصير الواحد.
هل هذه حكايات قديمة؟ نعم، لكنها ليست قصصًا للنسيان. إنها بوصلة للزمن الجديد، وتذكير بأن الحرية لا تُورّث، بل تُنبت في الأرض التي ارتوت بدم الشرفاء. والهيّة، في معناها الحقيقي، لم تكن احتجاجًا على حاكم فقط، بل كانت لحظة إدراك جمعي أن الكرامة أغلى من الحياة.
واليوم، في مئويتها، لا بدّ أن نسأل: ماذا بقي من تلك الروح؟ وهل الكرك، والأردن، والأمة، ما زالوا أوفياء لتلك القيم؟ وهل المشروع الوطني ما زال يضع الحرية في مقدّمة أولوياته؟
إن ما يجعل من الكرك مدينة غير عادية، هو أنها لا تبحث عن ضوء خارجي لتتجمّل، بل تستمدّ ألقها من داخلها، من ذاكرة مضرّجة، من مواقف لا تتكرّر. ليست مدينة محايدة، بل مدينة اختارت أن تكون في صفّ الإنسان، في صفّ العدل، ولو كلّفها ذلك كثيرًا.
ورغم تبدّل الأزمان، ما زال في الكرك ما يُنبئ بأن نار “الهيّة” لم تنطفئ. لعلّها هدأت، لكنها تقبع هناك، في صدور الناس، في شموخ القلعة، في حنين الأمهات، في نشيد الأطفال وهم يرددون: “اضرب رصاص خلي رصاصك صايب”.
تبدو الكرك اليوم، في مئويتها، مدينة تتطلّع إلى ما هو أكثر من الاحتفال. هي تطلب أن نعيد الاعتبار للحرية لا كشعار، بل كمشروع وطني حقيقي. فالمعرفة وحدها لا تكفي إذا لم ترتبط بالكرامة. والمشاريع لا تنهض إذا لم تكن جذورها ضاربة في القيم. والكرك تقول ذلك بلسانٍ عربيٍ فصيح: أعطوني حرية، وخذوا منّي أيّ شيء آخر.
في زمن ترتبك فيه المدن بين المظهر والمضمون، تبقى الكرك واثقة كأنها حجر من كتاب التاريخ. تعرف أن المجد لا يُشترى بالرخاء، بل يُبنى بالصبر، وأن الكرامة لا تُهدى، بل تُنتزع من فم التنّين.
من هنا، لا يجب أن تمرّ مئوية الهيّة بصمت. بل يجب أن تكون فرصة لاستعادة المشروع الوطني، وإعادة بناء العلاقة بين المواطن والمكان، بين التاريخ والمستقبل. ويكفي الكرك فخرًا أنها، في أصعب اللحظات، لم تتخلّ عن إنسانيتها، ولم تساوم على مبدئها.
فالتحية للكرك، ولقلاعها، ولشهدائها، ولنسائها ورجالها. والتحية لأولئك الذين قدّموا أبناءهم فداءً للدخيل، لأنهم آمنوا أن الشرف لا يُقاس بعدد الأبناء، بل بنوع التضحية.
في مئوية الهيّة، نحن لا نحتفل، بل نتذكّر لننهض. لأن الكرك ما زالت تُعلّم، وما زال على الأمة أن تُصغي، وتتعلم من مدينةٍ اختارت أن تكون حرة، حتى وإن دفعت الثمن كاملاً.